مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


حوار شيق مع الفيلسوف الفرنسي إيمانويل بيكافي حول فلسفة الاقتصاد

Maghribona1 Maroc

إيمانويل بيكافي Emmanuel Picavet من مواليد باريس سنة 1966، فيلسوف فرنسي، يشغل حاليًا منصبَ أستاذ علم الأخلاق التطبيقية بجامعة السوربون الفرنسية. وهو مدير المجلة العلمية “مجلة الفلسفة الاقتصادية”

(Revue de Philosophie Économique / Review of Economic Philosophy) التي كانت من المحطات السباقة إلى تعريف الوسَط الفرنسي بمجال “فلسفة الاقتصاد”. لهُ العديدُ من الأوراق العلمية المُحكمة وعشرات المؤلّفات بدايةً بـ “مُقاربات الملموس” سنة 1995 وُصولًا إلى “المُطالبةِ بالحقوق” سنة 2011.

كان أملُنا وراء مُحاورة إ.بيكافي هوَ تسليطُ الضوءِ على إحدى تقاطُعاتِ الحقول المعرفية المغفولِ عنها في عالمنا العربي، ونقصدُ بهذا “فلسفة الاقتصاد” أو “الفلسفة الاقتصادية”. وهو ما تحقّق بالفِعل، حيثُ أخذ بنا الفيلسوف الفرنسي إلى تحقيق النظر بعبارات مُوجزةٍ في مفاهيمَ مركزيّة في فلسفة الاقتصاد، بعدَ أن عَمدَ إلى تقديمِ مدخَلٍ عامّ عن هذا المجال الحديث وبيانِ مُختلَفِ المواضيع والأسئلة المُثارة بداخِله. ومع ثراء الإجابات ودقّتِها في التعبير وكثرةِ الإحالاتِ التي فضّل التركيز فيها على الوسَط الفرنسي بالخصوص -إشهارًا لأبحاثِ زُملائِه وأعمالِهم-، فإن هذا الحوار يُعدّ في اعتقادنا مدخَلًا جيّدًا للتعرّف على التقاء مجالين أساسين هما : الاقتصاد والفلسفة.

نصّ الحوار …

ف.أ. : إذا نظرنا إلى الواقع الأكاديمي المُعاصر، نُلاحظ أن “التّخصص” قد أحدثَ وما يزال يُحدث شقًّا فاصلًا بين مُختلف المجالات العلمية. من الأساسيّ إذا أن نتساءل أوّلًا وقبل كلّ شيء عن العلاقة التي تربطُ الفلسفة بعلم الاقتصاد. هل تستطيع الفلسفة حقًا أن تمنَح إضافة للاقتصاد ؟ وَإن كان الأمرُ كذلك، كيف يُمكن أن تتجلَى هذه الإضافة ؟

 

إ.ب. : هذه العلاقة مُهمّة وقديمة. وفي نظري، فإنها لا تتنتحى كلّيًا لصالح حركةٍ “تخصّصيةٍ”، التي -على العكس تمامًا- تُعزّز من تبادلات قد نكون على خطإ من تقليل قيمتها والتي غالبًا ما تكون بارزةً في السير الذاتية ( كان كينز مُنغمِسًا بعُمقٍ في أسئلة فلسفية، وَكان كينيث أرو من مُؤيّدي المنطقي ألفريد تارسكي، كما أن مُبرهنة غيبارد-ساترثويت Gibbard-Satterthwaite الأساسيةِ في اقتصاد المعلومة قد تمت صياغتُها من الفيلسوف ألان غيبارد، وبشكل مُستقل من الاقتصادي مارك ساتيرثويت).

بدايةً، من وجهة نظر الأصول التاريخية ، لا يخفى علينا تجذّر العلوم الاقتصادية في الفلسفة الأخلافية. فقد كان آدم سميث أستاذًا للفلسفة الأخلاقية و كتابُه نظرية المشاعر الأخلاقية يبقى واحدًا من “كلاسيكيات” الميدان. لم يكُن هنالك ببساطة -كما في الميادين التخصّصية الأخرى- “استقلالٌ” تصاعدّي للاقتصاد انطلاقًا من الجذع المُشترك للفلسفة بالمعنى العام. فقد كانت هنالك أيضًا ولادة للاقتصاد في القرن  الثامن عشر كحقلِ استطلاعٍ مُستقلّ ذي علاقةٍ على وجه الخصوص بتوجّهات فلسفية ماتزال مَسموعةً إلى يومنا هذا (نذكُرُ منها على وجه الخصوص : الحق الطبيعي الحديث والتعاقدية واللبرالية).

من وجهة نظر توجّهات المنهج، لا ترجعُ الاختيارات التي ينبغي اتّخاذها في العلوم الاقتصادية  (أو لا ترجعُ جميعُها) إلى ديناميكية داخليّة محضة تنتمي إلى “تقليدٍ” في العلوم الاقتصادية. فإن للاختيارات الابستمولوجية الكُبرى المُتعلّقة بالمنهجية العلمية تداعيات على الاقتصاد. ومن ذلك ما رأيناه في الأسلوب الذي استشعر به الاقتصادييون أنهم مُلزمون باتخاذ موقف خاصّ بهم (أقصدُ كلّ اقتصادي) تُجاه المُقترحات الابستمولوجية لكارل بوبر في مؤلّفه منطق المنهج العلمي Logik der Forschung.

من ناحيةٍ أخرى، تُوجدُ داخل الاقتصاد والفلسفة ميادينُ تخصّصية تُقدّم بعضًا من التقاطُعات : نظرية المؤسّسات، تحليل الحُكم والسّلطة، دراسة العقلانية، دراسة أشكال وإجراءات التعاون الاجتماعي، العدالة في التوزيع والوقف، الحيطة والحذر في التعامل مع البيئة أو النظم التقنية، إلخ.

لا نستغربُ بعد هذا من وُجودِ “مُغامرات مُشتركة” قرّبت المسافةَ بينَ المجالين، سواءٌ أتعلّق الأمر بالنفعية أو الإشتراكية أو اللبرالية، أو تعلّق الأمر -لنقُل- بنظرية الأعراف أو تحليل التغيّرات المُتعاقبةِ للرأسمالية.  وهو الأمرُ الذي يؤدّي إلى حوارات مُثمرة، فلا نستغربُ من التّداخُلِ الوارِد عند بعض المُؤلّفين بين المحاور الفلسفية والاقتصادية. وعلى هذا، فمن العبث السّعيُ إلى فهمِ كينز دون التطرّق لفلسفته حولَ الاحتمال، أو كومنز Commons دون النظر إلى روابطِه بالبراغماتية، أو سين Sen دون الإشارة إلى قُربِه من أسئلة مُحدّدة من الفلسفة الأخلاقية نابِعةٍ من اعتنائه بأعمال ر.م. هار R.M. Hare. بالمثل، يرتبطُ النتاج الاقتصادي لهايك بفهمِه لِتقليد اللبرالية الفلسفية والسياسة. لأسباب على هذا المنحى، بل وأيضًا بسبب الأسئلة الجوهرية التي يطرحُها الاقتصاديون حول الظواهر الحادثة التي تُجبر على إعادة فحص الأطر المفاهمية والميثودولوجية، من الظاهر عندي بِشكل بدهي وواضح أن تطوّر الفلسفة مُرتبطٌ بتعميق الاشتغال على الاقتصاد.

 

ف.أ. : بعدَ أن وعينا بداهة الصّلة بين المجالين، ما هي، بصِفة عامّة، المواضيع المُعالجة داخل فلسفة الاقتصاد ؟

 

إ.ب. : هنالك بلاشكّ الكثير من الطّرق لتحديد طيف المواضيع المشمولة (أحيل في هذه النقطة إلى المُؤلّف القيّم للغاية لآلان لورو Alain Leroux وآلان مارسيانو Alain Marciano، الفلسفة الاقتصادية La Philosophie économique). قد نُصدم بثراء و تنوّع الأسئلة المُتناولة إذا نظرنا إلى المؤلّفات الجامعة الموجودة (على الخصوص، باللغة الفرنسية، دروس الفلسفة الاقتصادية  Leçons de philosophie économique ، تحت إشراف آلان لورو وبيير ليفي Pierre Livet، و الفلسفة الاقتصادية: تقرير عن الحصاد Philosophie économique : un état des lieux، تحت إشارف جيل كامبانيولو Gilles Campagnolo وجون-سيباستيان غاربي Jean-Sébastien Gharbi).

وَلكونِه مجالًا مُتداخل-المعارفِ وَمبنيًا بشكل واسِع على تعزيز البحوث المُتكئة على الاقتصاد وعلى الفلسفة، لا ينبغي بالطبع التقليل من شأن تقاسُم المهامّ مع الحقول البحثية المُجاورة. هذا التّقاسُم هو توافقيٌّ جزئيًا، لا نُخفي ذلك! بل ينبغي على كلّ حال القيام بانتقاءٍ واختيارات. في مجلّة الفلسفة الاقتصادية، نُركّز اهتمامنا على الأعمال التي تتساءل بأسلوب عقليّ، نقدي ومُدلّل بصلابةٍ حولَ المشاكل الفلسفية المُثارة من النشاط الاقتصادي ومن فهمنا لهذا النشاط. هذا هو موقفُنا الجماعي الأساسُ : ينبغي أن تكونَ الأعمال المعنية مُساهِمةً في سبرِ أسس و إجراءات التحليل الاقتصادي و الحياة الاقتصادية. إننا في الحقيقة نُقدّم ثلاثة حقول بحثية كُبرى : الفلسفة الاجتماعية والفلسفة السياسية للمؤسّسات ثمّ الفلسفة الأخلاقية والتفاعلات مع الاقتصاد المعياري وأخيرًا فلسفة وميثولودولجيا العلوم المُرتبطة بالعلم الاقتصادي.

وكيفما كانت قيمة هذه الاختيارات أو غيرُها التي يُمكن تبنّيها، فإن مشاكل الحدود أمرٌ لا مفر منه ويجبُ علينا استيعابُها. أظن أنه قد يكون من غير المعقول زعم حلّها بواسطة صيغة عامّة (لا يملكها أحد). على سبيل المثال، بعضُ أعمال تاريخ الفلسفة أو تاريخ الفكر الاقتصادي تثير أو تُعمّق مواضيعَ من الفلسفة الاقتصادية ؛ القضية إذا قضيةُ الدرجة أو الغاية المُهيمنة. وبالمثل، فإن بعض الأعمال التقنية في نظرية الاختيارات الجماعية أو في نظرية الألعاب قد يكون لها، على صعيد الغايات، روابط صلة مع استشكالات فلسفية، دون الانخراط رغم هذا في المسارات الحجاجاية، الأنطولوجية أو الابستمولوجية النموذحية في الفلسفة.

 

ف.أ. : على ذِكر المسارات الكلاسيكية في الفلسفة، ما مدى قُرب التناوُلات الفلسفية لعلم الاقتصاد من المُقاربات العامّة المُتّبعةِ في فلسفة العلوم الطبيعية كالفيزياء أو فلسفة الرياضيات ؟

 

إ.ب. : من الناحية التاريخية، النقاشات حول القانون والسببية والتفسير والتنبؤ قرّبت بشكلٍ ملحوظ بين هذين المجالين. وينطبقُ الشيء نفسُه على النظر إلى الترويض أو إلى العلاقات بين الجودة والكمّية أو إلى المُلاحظة والقياس، أو أيضًا إلى معنى الإحالة إلى تجارب تفكير أو عبارات لا مُقابل لها قابِلٍ للمُلاحظة المُباشرة. وتظلّ اليومَ هذه الأسئلة الكلاسيكية حديثَ السّاعة من جهات عدّة، وإن كانت النقاط المُحدّدة في النقاش مُتحرّكةً. على سبيل المثال، ظهور منهجية “المُنحدر الذاتي الشّعاعي” Var في الاقتصاد القياسي ومعايير السببية لغرانجر وسيمز للسلاسل الزمنية للبيانات أثارت نقاشات أساسية حول السببية في الاقتصاد؛ وقد أظهرت أعمال نانسي كارتورايت Nancy Cartwright  بجلاءٍ أهمية تقارُبٍ مع الأسئلة القادمة من فلسفة العلوم الطبيعية.

أعتقدُ أن الحوارَ اليومَ بين ابستمولوجيا الاقتصاد وابستمولوجيا العلوم الطبيعية له كلّ الأسباب لاستعادة التوهّج، خاصةً لتمكيننا من أن نجد في الابستمولوجيا الاقتصادية نظير ما نجدُه في فلسفة الفيزياء والبيولوجيا من تطوّرات أنطولوجية أو “ميتافيزيقية”. فالنمذجة بموهبةٍ ليست كلّ شيء، كما أن “إنقاذ البيانات” ليس بكافٍ : في وقتٍ أو في آخر، يجب أن نطرح سؤال العلاقة بالواقع.

في علوم الطبيعة وفي البحث الفلسفي حول أسسها ومناهجها، أعتقدُ أنه من المُسلّم اليومَ أن الأسئلة الابستمية يجبُ أن تُقرن بالنظر النقدي إلى التقريرات الانطولوجية، حول التصنيفات، حول ما تُعلّمنا إياه التجربة عن “الواقع” (حتى لو كان واقعاً مبنيًا جزئيًا من إجراءات تنطوي على قدرٍ من التوافق). أليس من المشروع أن نتوقَع نظير هذا من التطورات في فلسفة العلوم الاجتماعية ؟ بعضُ الباحثين بدؤوا الاشتغال على ذلك.

أما فيما يخصّ الرياضيات، فنستطيع أن نقول أن الاقتصاد قد ضمّ بشكل واسعٍ إلى ديناميكيته الداخلية مطالب النسقية L’axiomatique. وبإمكانه بلا شكّ أن يسترشد بتطوّرات ابستمولوجيا النمذجة والمُحاكاة. بيد أن النقطة الرئيسية -من وجهة نظري- تكمُن في الحوار مع البيولوجيا وعلم النفس والعلوم العصبية (بما في ذلك فلسفة العقل واللغة) وهذا قصد اعتبار الأسئلة المُتعلّقة بمكانة الإجراءات الطبيعية والمُحدّدات الطبيعية، وَدور أنماط الوحدات الاجتماعية وخصائص غايات الفاعلين في الفكر الاقتصادي. أمّا التحفظات المُعلنة في وجه السوسيو-بيولوجيا فإنه بالإمكانِ تفهُمها وهي في الغالب مُستوحاة من مشاعر صائبة تمامًا على المستوى الأخلاقي ومن تحيّزات سياسية لا يُعطيها التاريخ إلاّ تبريرًا مُفرطًا. لكنّه لا يجبُ أن تعترض الطريق نحو تطورات في فهم تجذّر الحياة الاجتماعية في عالم الحيوان.

المخاوف الناشئة من المقاربات “الاختزالية” بإفراطٍ مفهومةٌ لكن نستطيعُ أن نقول أيضًا أنه من المؤسف أن نحرم فهمنا السوسيو-اقتصادي مما تمنحنا إياه البيولوجيا والعلوم العصبية الطبائعية حول عالم الحيوان. والواقع أن هذه المواجهة مهمة لفهم خصوصيات الحياة الاجتماعية والتنظيم في الجنس البشري، لاسيما فيما يتعلّق باللغة، أو وظائف المعايير، أو مكانة القصد والفعل المُتعمّد، أو الإمكانات المفتوحة من التركيز وتشكيل المشاريع أو أيضًا الاستقبال الداخلي الفكري للمراجع الأخلاقية والسياسية. التساءل عن مكانة الطبيعة لا يعني بالضرورة إرادة جعل النحلةِ نموذجًا كونيًا، مهما كانت الأهمية التي يحتلها هذا الحيوان في تطوّر الفكر الاقتصادي …

 

ف.أ. : إلى أي مدى يهتم الاقتصاديون بالقضايا المنهجية المُرتبطة بحقلهم العلمي؟ هل ثمةَ بالفعل وعي حقيقي بفائدة النظرات الفلسفية على القضايا الاقتصادية؟

 

إ.ب. : تاريخيًا، لقد كانت هذه الأسئلة هامة جدًّا في تطوّر العلوم الاقتصاد. على سبيل المثال، تطوّرت حدّيّة كارل منجر على خلفية “شجار المناهج” Querelle des méthodes في العالم المعرفي باللغة الألمانية (أحيل طبعًا إلى أعمال جيل كامبانيولو). كما كانت التطوّرات المُهمة للغاية من باريتو وفالراس حول مفاهيم التوازن، وقبلهم إسهامات كورنو الاقتصادية، تندرجُ في نظرٍ كلّي عميق وشاملٍ بشكلٍ هائلٍ على دروس تاريخ العلوم، والتي ترجعُ إلى ما يُعرف اليوم عادةً بفلسفة العلوم. في القرن العشرين، الخيارات الكُبرى لفلسفة العلوم كان لها أثر على صيرورة تاريخ العلوم الاقتصادية. على سبيل المثال، نظرية التفضيلات المُتوقّعة (أ.برغسون، ب.سامويلسن) مُتجذّرة إلى حد كبير في تبني النظرية التي تدين الرجوع إلى عبارات نظرية لا مُقابل لها في الواقع. كما كان تطور النماذج التجريدية جدًا أو المثالية في الاقتصاد الكلّي مُرتبطة بنظرية ميلتون فريدمان حول لاواقعية الفرضيات، التي هي بدورها مُرتبطة بنوعٍ من الاحتفاء بأعمال كارل بوبر.

صحيحٌ أنه ليس جميع الاقتصاديين مُندفعون عفويًا نحو أسئلة المنهج؛ لكن يجبُ عليهم على أقل تقدير -مثل الكلّ، نستطيعُ أن نقول- الاهتمام بشروط صحّة خطابهم واستقامة مسارهم وحسن استقبال وتوظيف أعمالهم. ثمّ إن الأسئلة الميثودولوجية تأخذ تقريبًا على اختلافها -وهو أمرٌ مفهوم- إلى الوعي بضرورة الاستشكال الفلسفي. في بعض الحالات، يكون هذا مفهومًا ومقبولًا من أغلب الاقتصاديين. فعلى سبيل المثال، الاهتمامُ اليومَ بميثودولوجيا ” مختبر عبداللطيف جميل لمكافحة الفقر” J-Pal  في الاقتصاد يُجبر بكل تأكيد على طرح أسئلة حول التجريب أو شبه-التجريب. وَتبنّي انعطاف الاقتصاد “السلوكي” أو اختيار وجهة الاقتصاد التجريبي في المُختبر هو أخذٌ لا محالة بِرِهانٍ على المنهجية المُتبعة، وهو ما يكون في الغالب مُصاحبًا بقناعات حول محدودية المقاربات الأكثر تقليدية.

تطرحُ الانطولوجيا الاجتماعية اليومَ أسئلة منهجية عديدة مع فتحِ مجالات مُثيرة للمستقبل. ما تزال الإسهامات المركزية لسيرل Searle وتيوميلا Tuomela، وأيضًا التطورات الجديدة المُرتبطة بتيار الواقعية الفلسفية بتجدّد نشاط البراغماتية و”الفيتغنشاينية” الاجتماعية بانتظار استيعابٍ مُرضٍ في الابستمولوجيا الاقتصادية. وإن كنا نرى آثارها على سبيل المثال في عمل بينيديكت رينو Bénédicte Reynaud حول القواعد، أو في عمل نيكولا بريسي Nicolas Brisset حول الأدائية Performativité في الاقتصاد. يبقى أن المعلومة حول التطورات الفلسفية المُنتظمة ليست رُبما مُطوّرةً بشكلٍ كافٍ : إنها مُشكلة أعم، لا تخصّ فقط أولئك الأشخاص الذي يطرحون أسئلة اقتصادية.

وفي الحقبة المُعاصرة، يُمكن أن نقول أن ثمةَ “تبادُلًا للإشكاليات” بين الفلسفة والعلوم الاقتصادية، هذا التبادل الذي يدلّ بوضوح على ثمرة الانفتاح على الفلسفة، من وجهة نظر الاقتصاديين. وهذا على الأرجح هو ما يهمّ أكثر إن كنا نتساءل عمّا يُمكن أن تمنحه الفلسفة للاقتصاد اليوم. في الواقع، قد منح بعض الفلاسفة مادّة خام للعلوم الاقتصادية. فالنظرية الفلسفية للقياس كانت هامة في تطوير النظرية الاقتصادية لدالاّت الرّفاهية. ولننظر أيضا لنظرية الأعراف/التقاليد لديفيد لويس، الذي كان مصدر إلهام بالنسبة لعلماء الاقتصاد. الأسئلة الفلسفية العميقة المُثارة بانتظام من هربرت سيمون في سياق أعماله لها روابط مُباشرة بإسهاماته على الاقتصاد وما أعقبها. وقد خضعت أيضا المحاور المُرتبطة بالنفعية للكثير من “تفكيرات ذهاب-إياب” بين الفلسفة والاقتصاد (انظر لأعمال جون هارساني، فيليب مونجان Philippe Mongin أو جون بروم John Broome).

ومن الرائج اليوم أن نجد لدى عُلماء الاقتصاد صياغاتٍ نظريةٍ مُستوحاة من ميشل فوكو، بول ريكور، جون سيرل أو إيمانويل ليفيناس. وليس الأمر بغامضٍ للغاية : وإلا كيف يُمكننا تناوُل أسئلة حول الحكومة والحكامة، إشكاليات الهوية الشخصية والاجتماعية، أسئلة تقلّد المسؤولية المُجتمعية في المدار الاقتصادي، أو حتى إشكاليات الاقتصاد المُتعلقة بتصرّفات اللغة والأعراف؟ بعض الاقتصاديين اليوم يُعالجون بالفعل أسئلة أساسية من مثل أسئلة الهوّية، كما نرى في مجلة الفلسفة الاقتصادية، حيثُ خُصّص الملف الأخير تحت تسيير كلّ من هيراد إيغرشيم Herrade Igersheim وراكيب إيج Ragip Ege للعلاقات بين الذات والغير، وأيضًا في كتاب نقد الوجود الرأسمالي Critique de l’existence capitaliste لكريستيان أرنسبيرجير Christian Arnsperger.

 

ف.أ. : هل يُمكن الحديث عن تيارٍ ميثودولوجي مُهيمِنٍ في العلوم الاقتصادية، أم أننا بالأحرى أمامَ تنوّع في الرّؤى والأنظار؟

 

إ.ب. : لا شكّ أن هذا السؤال مُعقّد للغاية، وعليّ أن أنبّه إلى أنه لم يَسبق لي أن أفردته بالبحث والدراسة. من الواضح أن ثمة توجّهًا مُهيمِنًا، لكنه يُمثّل بالتأكيد توجّهًا يحوي عددًا مُعيّنًا من التحيّزات في المنهج و”أساليب العمل” -باختصار، في “نمطٍ علمي”- أكثر من كونِه جذعًا مُشتركًا من القناعات الجازمة حول موضوع الواقع الاقتصادي. لستُ مُقتنعًا بأن ما يُسمى بالتيار “المُهيمن” (أو النيو-كلاسيكي) يتميّز أساسًا بالفردانية المنهجية. هذه الأخيرة تلعبُ دورًا محوريًا، لكن نماذج السلوك المُستعملة لديها الكثير من الطابع الانقلابي  وهي في الغالب تُعَبَّؤُ فيما يتعلّق بكيانات جماعية (مجموعات فاعلين، “فاعلين تمثيليين” لمُجتماعت بأكملها، شركات …).

وبالأحرى، فإنه غالبًا ما نجدُ القناعات القاطعة داخل التيارات التي ليست في وضعية هيمنة، داخل هذه التعددية من “الإيتيرودوكسيات” Hétérodoxies التي لا يبدو لديها نزوحٌ للاختفاء. المراكسيون و”النمساويون”، على وجه الخصوص، لديهم عادةً قناعات ظاهرة الصراحة حول طبيعة العمليات الاقتصادية. وعلى النقيض من ذلك، بعض الكتب المدرسية “الأرتودوكسية” Orthodoxes -على سبيل المثال، كتاب قراءات في الاقتصاد الكلّي Lectures on Macroeconomics لباشلار وفيشر، المُعتمد على نطاق واسع خلال الفترة التي كنت أرتاد فيها مقاعد الجامعة- يتمثّل كفهرسِ نماذج ويترُك هامشًا كبيرًا للاختيار للقارئين بخصوص قناعات الجوهر.

هنالك بالتأكيد تنوّع في الرؤى داخل الاقتصاد، وتساهم فلسفة الاقتصاد بطريقتها الخاصة في الفهم السليم لهذا التنوع وإقامة جسور بين رؤى العالم. تُساهم كذلك في إدخال المزيد من التنوع الثقافي داخل عالم الفكر الاقتصادي أو عالم الفكر السياسي المُرتبط بالاقتصاد. أمّا التصوّر الخاص الذي يربطُ “أورثودوكسيةً” بإيتيرودوكسيات مُستقرّة شيئًا ما فإنها مُثيرةٌ للاستغراب ويُمكن أن تظهر كنوعٍ من الفضيحة بالنسبة للعقل. ومع ذلك، ينبغي أن نفهم آثارها الديناميكية : بعض الطرق في رؤية الأشياء يُمكن، دون أن تكون مُشتركة لدى الجميع، أن تصل بنا إلى اكتشافات أو حجج تكون هامة لكافّة الناس وبالتالي تدعو أو تدفع إلى صياغات جديدة تجعلها أكثر اتصالًا بالتصوّرات الكلّية الأخرى.

 

ف.أ. : ما هي المكانة التي تحتلّها الأخلاق داخل نقاشات فلسفة الاقتصاد ؟

 

إ.ب. : التحليلات الاقتصادية للعدالة (التوزيعية أو غيرُها) بحوزتها الكثير مما يُمكن أن تُقدّمه للفلسفة الأخلاقية والسياسية. على سبيل المثال، من المؤكّد أن أعمال سيرج-كريستوف كولم Serge-Christophe Kolm ستزيدُ أهميةً إذا تمّ إدراجُها في الأبحاث الفلسفية الخالصة. وَبخصوص تحولات الرأسمالية والتفاوتات السوسيو-اقتصادية، يرى العديد من الفلاسفة أنه من الضروري النظر بجدّية في إسهامات اقتصادي كتوماس بيكاتي (انظر على سبيل المثال إلى نقاشنا في السوربون مع توماس بيكاتي، المنشور في مجلة Cités). نستطيع أيضًا أن نُلاحظ أن اشتغالات الاقتصاديين على التعاقدية، والأعراف الاجتماعية، والمعايير وتحمّل المسؤولية تُثير الكثير من النقاشات داخل الفلسفة، مهما كانت الاختلافات المشروعَة في المنهج أو في الغاية.

بعض الأسئلة التي طُرحت أو تشكّلت داخل العلوم الاقتصادية انطلاقًا من أسئلتها الخاصة تُعدّ ذات نفعٍ كبيرٍ للفلسفة الأخلاقية والسياسية. على سبيل المثال، من المعلوم أنه داخل سياقٍ اقتصادي بالأساس قد ظهرت كُبريات “مُعضلات الاختيارات الجماعية” مثل “مبرهنة أرو” أو “المُعضلة اللبرالية” لـ أ.ك. سين. إنها إشكاليات لا محيد عن مُواجهتِها لكلّ مُهتمّ بالفلسفة الأخلاقية والسياسية، حيثُ أنها تقود إلى إعادةِ النّظرِ في قناعاتٍ أو أطروحات حولَ التعايش، حول دور المعايير، حول طبيعة الحقوق وحول العقلانية. إنها نتائج بنية، من المفهوم بُروزها انطلاقًا من أسئلة اقتصادية إلا أن حمولتها الحقيقية تتجاوز هذه الأسئلة الأولية بعيدًا. أعتقدُ أننا نرى هذا جيدًا في أعمالٍ فلسفية كالتي لجيل-غاستون غرانجي Gilles-Gaston Granger وبرتران سان-سيرنان Bertrand Saint-Sernin. ولا تفوتنا أيضًا الفائدة الأخلاقية والسياسية لتطورات الفكر الاقتصادي بخصوص السلع العامّة والسّلع الوصائية Biens méritoires أو المُشتركة.

في الاتجاه المُعاكس، استطاعت نظرية العدالة لجون راولس بـ”مبدأ الاختلاف” الشهير (المُرتبط ارتباطًا قويًا بـ”العدالة العملية” في اقتصاد سيرج-كريستوف كولم) فتحَ المجال لتحليلاتٍ اقتصادية مُتعدّدة. كما تم توظيف القاعدة التوزيعية المُرتبطة باسم باتريك سوبس (مبدأ التدريج Grading principle) بشكل مُستمرّ في النظرية الاقتصادية للاختيارات الجماعية والعدالة التوزيعية. كما أن مُقاربات الحقوق في الفلسفة الأخلاقية والسياسية تلقى اهتمامًا مُتواصلًا في المُحاورات الاقتصادية.

في علم الاقتصاد، يرتبطُ الاهتمام بأسئلة الأخلاق تقليديًا باقتصاد الرفاهية أو الاقتصادي المعياري. وقد كان سيُؤدّي ظهور “اقتصاد الرفاهية الجديد”، مع تركيزه النموذجي على معيار الكفاءة، إلى إفقارٍ حاسمٍ للفكر الاقتصادي في هذا الصّدد. غيرَ أنه بفضلِ الجهود النشيطة لاقتصاديين بصلابة هارساني، سين وكولم، يبدو من الواضح اليومَ أن الاقتصاد المعياري يغطّي صرحًا واسعًا ويتواصل مع الفلسفة الأخلاقية بطُرقٍ شتّى. أمّا الذي مايزال شيئًا ما في الظلّ فهو مجموع الأسباب التي من أجلها من المفروض على الدراسة الوصفية للسلوكات والمؤسّسات والمُمارسات الاقتصادية توظيفُ مُقاربات أخلاقية. في اعتقادي، ثمّةَ تقدّمات من المُترقّبِ إحرازها كلّما توصّلنا إلى إدراكٍ بشكلٍ أوضح لطرائق تأثير المعايير (الأخلاقية وغيرها)، مع تأويلاتها وطرائقها في التنفيذ، على اتخاذ القرار وفحوى التفاعلات الاجتماعية.

 

ف.أ. : من أينَ يستمدُ مفهوم “العقلانية” مركزيّته ؟ وهلّا شرحتَ بإيجازٍ المقصودَ من هذا المفهوم.

 

إ.ب. : إنها قصّة قديمة ! في الواقع، لقد عادَ من الحتمي بعدَ تأصُّل الاقتصاد في التنظيم المحلّي ثم في نظرية الحكامة دراسة أسئلةِ العقلانية، بمعنى غلبَةِ أفضلِ الدوافع. في تطوّرات العلوم الاقتصادية الحديثة، أخذ هذا المفهوم العام للعقلانية معنىً أكثر خصوصيةًـ بربطِه بمُقاربة استمثالية optimisatrice في البحث عن أفضل النتائح (وفق نظام من القيمِ أو من التفضيلاتِ نفترضُ أنها مُعطاة). على سبيل المثال، عقلانيةُ الشّركة هو في تعظيمها لربحها المُتوقّع. فيما تكمُن عقلانية المُستهلك في “إشباعِ” بنيةِ تفضيلاتِه، عن طريق اختيارِ ما لا يتفوّق عليه غيرُه.

وقد عرفت تقنيات نمذجة العقلانية الاستمثالية تطوّرًا كبيرًا مع ظهور النظرية الرياضياتية للتعظيم تحت قُيودٍ والبرمجة الديناميكية. إذ وُفّق الاقتصاديون بمهارة في وضعِ روابط دقيقة بين تعظيم الدّوالّ-الأشياء (تمثيل الأهداف) وبين الاختيارات التفضيلية المُعبّرة بتناسقٍ عن التوجّهات أو القيم (نظير إشباع التصنيفات التي تعكسُ التفضيلات). في أعمالٍ كهذه، تُمنح أهمية كبير للخصائص الصوريّة للاختيارات أو للتفضيلات أو للتعظيم ذاتِه. على سبيل المثال، تمّ التركيز إلى حدّ كبير على تَعديةِ و تماميّةِ الاختيارات الفردية؛ وبعبارة أخرى، نزُوعُها إلى ترتيبِ كلّ ما ينبغي ترتيبُه والقيامِ بهذا على نحوٍ يمنعُ حصولَ انقلاباتٍ أو تنافرات في المُقارنات مثنى مثنى (مثلَ حالةِ ما إذا فَضّلتُ “أ” على “ب” و “ب” على “ج” دونَ أن أفضّل “أ” على “ج”). تبدُو الخصائص من هذا النوع كخصائص مركزية للعقلانية الفردية في الاختيارات.

تكمُن الأهمية الميثودولوجية لفرضيات العقلانية في عدة مصادر : السّعي لوصف “الدّوافع الجيّدة” وتقديم نماذج معيارية للقرار؛ ربط التواصل بين الفكر الاقتصادي والفكر الاستراتيجي؛ فهم التفاعلات الاقتصادية أو الألعاب الاجتماعية من حيثُ “التوزان” المُشكّل لتعديلٍ مفهومٍ بين أفعال الفاعلين الذين كلّ من جانبه يُحاولون القيام بأفضلِ ما لديهم فيما يخصّ أهدافهم الخاصّة. من وجهة النظر الفلسفية، كان أحيانًا تحليل معنى هذه العقلانية غير مُحرّر، وَلم تخلُ الإسهامات الاقتصادية الكُبرى من هذا الخلل. إلا أن الأمور تغيّرت بشكل كبير، خاصة بسبب التحدي المطروح من قِبل المُعضلات التجريبية الكبيرة للقرار الفردي في اللايقين (معضلة ألي و إلسبيرغ بالخصوص). وَالتفاعل مع علم النفس والفلسفة غني للغاية اليوم في هذا الميدان، في الاقتصاد.

يبقى أن الفهم الاقتصادي للعقلانية يبدو في كثير من الأحيان نموذجيًا لقيود الفكر الاقتصادي المُهيمن، أو حتى لأي مُقاربة اقتصاديةٍ أساسًا للعالمِ الاجتماعي. وثمّةَ أسئلةٌ كثيرة تُطرح حول العلاقات بين الشروط الشكلية المُرتبطة ببنية الاختيارات وبين واقع عمليات الاستدلال أو تبرير الاختيارات، أو أيضًا للتعبير عن القيم الخاصة في الاختيارات. أسئلة كثيرة تُطرح أيضًا حول نوع العلاقة مع المجتمع أو الجماعات التي تشارك في الخيارات الاقتصادية؛ أليست الرؤية الاستمثالية للاختيار -والتي تعود جذورها إل جانب لابنيتز إلى ميكيافيلي وهوبز، وقبلهم أرسطو- مُرتبطة برؤيةٍ مُفرطة في الفردية، أو بشكل أوسع “مُنغلقة” (مُقفلة في قيم الوحدة الفردية أو الجماعية المَعنية) ؟ من ناحية أخرى، مايزالُ نزُوع النمذجة الاقتصادية للاختيارات العقلانية إلى ترجمةٍ وافية لإلزامات الحذر والحيطة محلّ جدالٍ واسع.

 

ف.أ. : من خلال سيرتك الذاتية، سبق لك أن قُمت بالاشتغال على عادةِ توظيف الرياضيات في الفلسفة السياسية. هل لك تصوّرٌ حولَ ترويض علم الاقتصاد ؟ وَهل يُعدّ هذا الترويض بالفعل مُبالغًا فيه وقليلَ الفائدة ؟

 

إ.ب. : هو جانبٌ ثانويّ نوعًا من مساهماتي على مرّ السنين، لكنّه يبقى مصدرًا حيويًا بالالتباس والفضول. في كتابي الأوّل، مُقاربات الملموس Approches du concret (1995)، استأنفتُ وطوّرت بحوثًا كُنت قد بدأتها خلال سنوات دراستي حول الانعكاسات الفلسفية للثورة العلمية في القرن السابع عشر، بما في ذلك انعكاسات التركيز الجديد على الكمّيات القابلة للقياس والأشكال المُتاحة للبرهنة الهندسية. فيما يتعلق بديكارت ولوك على وجه الخصوص، أُصبت بصدمةٍ قويّة -وأنا أتذكّر هذا جيّدًا- حيال الطريقة التي كانت تُحرّف بها الأسئلة الفلسفية الأساسية بزعامةِ مشروعٍ علمي في الفيزياء وبهمّ التوضيح الابستمي المُرافق لها (التفريق المشهور بين الصفات الأوّلية والصّفات الثانوية ذو دلالةٍ قويّة بهذا الصّدد).

أوليتُ اهتمامًا ببعض الجوانب الرياضية للفكر السياسي، خاصةً لأن الأعمال حول العقلانية وحول الاستراتيجية اتّخذت مُنعطفًا رياضيًا خلال القرن العشرين (وقبلَ هذه الفترة في بعض الأسئلة). أمّا على مستوى الفكر السياسي الرئيسي، فقد كان الترويض ومايزال مُتواضعًا. بل نجدُ للتوظيف الرياضيّ دورًا رئيسيًا بالخصوص في تحليل إجراءات التصويت والتخطيط، وأيضًا في المُقاربة الاستراتيجية للعلاقات الدّولية والتفاوض والنزاعات.

أكثرُ أعمالي المعروفة هي بلا شك تلك التي تتعلق بالحوار بين المُؤسّسات و التفاعل بين ديناميكية علاقة السّلطة والحجاج المعياري. وَباعتبارها مشاكل دقيقة وفاتنة، يجب عليّ أن أقول أن علاقتي بأفكار الرياضيين والرياضيين-الاقتصاديين كانت أقلّ انفصالًا وأكثر “أداتية” مما هي عليه في مجالات أخرى. فالحقيقة هي أننا ببساطة نفتقد لإشارات نظرية وأدوات تحليل في حقلٍ كهذا. والرياضيون (خاصةً مُنظرو الألعاب) والاقتصاديون-الرياضيون يُقدّمون -من بين آخرين-  أشياء مُثيرة للاهتمام.

على سبيل المثال، استفدتُ للغاية في أبحاثي من نظرية أغيون-تيرول Aghion-Tirole حولَ علاقات السّلطة في تفويض إمكانيات التّصرّف. وبالعمل جنبًا إلى جنب مع الرياضي داودسون رازافيماهاتولوترا Dawidson Razafimahatolotra والمُشاركة في فريق جوزيف أبدو Joseph Abdou ، تمكّنت من التعوّد على عناصر من نظرية أشكال الألعاب ومن مُقاربة أبدو-كيدينك Abdou-Keiding؛ وقد كان لهذا أثرٌ عظيمٌ على أبحاثي حول تعدّدية تفسيرات المعايير وحول انعكاسات هذه التعدّدية على التفاعل -الاستراتيجي بقدرٍ من الأقدار دائمًا- داخل عالم مُؤسّساتي. كما كانت تعليقاتي المُفصّلة حولَ تناوُل الحقوق والسّلطات في مُقاربات ب. غاردينفورز P. Gärdenfors و ب.بيلج B. Peleg و م.فلوربي M. Fleurbaey و م. فان هيس M. van Hees و أ.ك. سين وآخرون، خاصةً في كتابي “المُطالبة الحقوق” سائرةً في نفسِ الاتـّجاه. قد تبدو مُملّة، إلا أنها في اعتقادي خطوة ضرورية إن نحنُ نُريد حقًّا تعزيز فهمنا لقضايا مُهمة بهذا الحجم.

باختصار، قد أكون في وضعٍ غير مُريحٍ إن عمدتُ إلى إدانةِ الاقتصاديين بحجّةِ أن لهم ميلًا مُفرطًا إلى الترويض. حينما تكون الأعمال هامّة، فإنها تُفيد علم الاقتصاد وأيضًا التخصّصات التي تطرحُ أحيانًا أسئلة مُجاورة له. وأعتقدُ أن الطلبةَ المُتقدّمين يفهمون جيّدًا أن التقدّماتِ في المفهمة والتحليل من المفروض ترقّبها في تعاوناتٍ مُتعدّدة-التخصّصات.

ومع هذا، فأنا أعلمُ أن العديد من الاقتصاديين -وبعضهم ذو قيمة كبيرة- قلقون منذُ وقتٍ طويل بشأن المكانة التي تشغلها الرياضيات داخلَ ميدانهم الخاصّ. وثمّةَ شُبهةٌ بفعلِ التعايُش الموجود بين تطوّر التيار النيوكلاسيكي في الاقتصاد وبين الترويض في نفسِ الميدان : هل الثّقلَ المُعطى للمناهج الرياضية، ليسَ في آخر المطاف إلا وسيلة بسيطة لتعزيز تيار فكريّ دونَ آخر؟ يتعلّقُ هذا الارتباط بشكل واضح بمسائل التوجّهات التي ينبغي اختيارُها في العلم الجامعيّ، سواء أكانت انتخابات أكاديمية أو بلورة مسالك التأهيل أو اختيار التمويل. بالفعل، يجبُ أن تُطرح أسئلة المنفعة، بمعنى الخصوبة العلمية، لكن مع بقاء الوعي بصعوبة تقييم مُسبقٍ بالطابع الواعِد أو لا للتوجّهات المُقترحة.

على المُستوى الشّخصي، أشعُر أحيانًا أن التركيز على القطاعات الأكثر قابلية للترويض في العلوم الاقتصادية (مثل نظرية التّوازن العام، الاقتصاد-الجزئي الصناعي) قد أدّى إلى التقليل من شأن عوامِلَ حاسمةٍ في التطّور والمُمارسات في الشأن الاقتصادي، نظير المعايير والضغوط الاجتماعية، أو العادات الأخلاقية أو أيضًا خصوصيات الحياة المُؤسّساتية. وزُملائي في دوائر العلوم الاقتصادية أشهدُ على هذا. سأقتصرُ على القول بأن العلوم الاقتصادية باستطاعتها أن تنجحَ أكثر بتعميق علاقاتها مع التاريخ، والسوسيولوجيا والفلسفة وعلم النفس.

من ناحيةٍ أخرى، قد تكون ثمةَ مخاوف من عامة الجمهور بشأن الاستخدام الجماعي (على صعيد الشّركات، مُؤسّسات التنبؤ أو السّوق ككلّ) لتطوّرٍ من التطّورات القادمة من الاقتصاد الرياضي أو المالية الرياضية. ومن ذلك أن أزمة 2008 قد ألقت قدرًا من الشّك على الرياضيات المالية بسبب تورّطها المزعوم في سوء تقدير المخاطر، قي اتجاهات المُضاربة الطائشة، في التضخيم الدّوري لحالات عدمِ الاستقرار، إلخ. وكلّنا نعلمُ ما قيل عن صيغة بلاك Black وسكولز Scholes…

بدلًا من الطعنِ في مجموعةِ أعمالٍ أو أخرى، بدلًا من أن نثور على العلم كما يحلو للبعض في أيامنا هذه، من الأفضل أن نتصالح مع حرّية البحث وأن نعترف بوجودِ أسئلة جدّية تستحقّ دراسةً مُحقّقةً حولَ استخدام النماذج. ينبغي أن نطرحَ أسئلة أساسية حولَ ماهية النموذج -أيّ نموذج كيفما كان، لا النموذج “الاقتصادي” فحسب- وحول التفاعل الذي صارَ اليومَ عميقًا بين النظرية والتصوّر الجماعي لأطر الحياة الاجتماعية أو التفاعل. إنه جزءٌ من العمل الذي يشغلُنا في كُرسيّ “الأخلاق والماليّة” Ethique et finance الذي تمّ إنشاؤه من آني كوت Annie Cot وكريستيان والتر Christian Walter (وهو صاحبُه) في كلّية الدراسات العالمية لمؤسّسة دار علوم الإنسان في باريس.

مع المبادرة التي نطلقها الآن مع مجموعة من الشركاء – CHRONOS- نسعى إلى توضيح الأهمية من تساؤُلٍ مُهيكل بواسطةِ موضوعِ “خطر التنظيم” risque de régulation؛ نعني بهذا مجموع المخاطر التي تنتج في مجالاتٍ مُعقّدة من التفاعل الاجتماعي، من مُحاولة السيطرة بواسطة قواعد ونماذج. أعتقدُ أننا في نفسِ هذا الاتجاه يُمكننا أن نأمل أخيرًا مُواجهة فعلية لسؤال تحويل المُمارسات والمهن عن طريق إلتماس نماذج مُناسبة حينًا، وَقليلةِ التّحكّم حينًا، وخطيرةٍ في الاستعمالات المُتخذة أحيانًا أخرى.

Maghribona1 Maroc



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.