مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


الدعاء بالرحمة للكافر مقاربة قرآنية

تثار أحيانا مناقشات علمية دقيقة في مواقع التواصل الاجتماعي حول قضايا لم يكن يطرقها إلا أهل النظر، وأثناء مناقشتها في هذه الوسائط ينخرط فيها من له علم ومن لا علم له، وأحيانا حتى صاحب العلم يمتطي صهوة العاطفة ويخلع جلباب العلم ويرفع شعار “فلا اقتحم العقبة”، ولا ينتبه إلى “وما أدراك ما العقبة”، وما أشبه اليوم بالبارحة، فهذا الصنيع المعاصر يذكرني بمشاركة الجميع في الأندية والحارات وأمام دكاكين الصناع والحرفيين في بغداد،وانخراطهم في مناقشة قضايا القضاء والقدر والجبر والاختيار وعذاب القبر والميزان والصراط وغيرها من الموضوعات، فانتفض في وجههم الإمام العظيم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فألف كتابه القاصد “إلجام العوام عن علم الكلام”، وبيّن لهم من العنوان أن هذه الموضوعات لا حظّ فيها للعوام، وإنما هي قضايا تخصصية يجب أن تُترك لأصحابها.

ولو عاش الإمام الغزالي ورأى اليوتوبرز والمدونين يناقشون في منصات التواصل الاجتماعي مسألة الترحم على الكافر الميت ومقارباتهم الغريبة واستدلالاتهم العجيبة لاستعاض عن الإلجام واستعمل عبارة أقسى وأقوى.

العلم والعاطفة:

لبعض إخواننا الباحثين أجندات خاصة، فيريدون أحيانا أن يظهروا كيوت، ولهم إسلام لايت، ويسوقون لأنفسهم باعتبارهم تنويريين وأرباب تعايش وتسامح، ويفهمون الشرع وفق منظور أخلاقي، فيرفضون كل ما يناقض أجندتهم متوسلين بكل الوسائل من تدليس ولي أعناق النصوص، ولعل شعارهم هو الغاية تبرر الوسيلة.

سبق لأحدهم أن كتب لمناسبة استدعت ذلك خمس مقالاتبيّن فيها جواز الترحم على الكافر، وبعد ذلك بمدة يسيرة، زار زعيم المقاومة إسماعيل هنية جمهورية إيران، وشكر القيادة الإيرانية على دعمها للمقاومة الفلسطينية، وأثنى على القائد العسكري قاسم سليماني ودعا له بالرحمة. فما كان من صاحبنا إلا أن انتفض ضد إسماعيل هنية وحركته الإسلامية، واعتبر موقفهم غير أخلاقي، وغير جائز.

هنا تظهر الانطباعية والعاطفة، حيث يجوز أن نقول وفق مقالاته الخمس الأولى: رحم الله فرعون، ورحم الله أبا لهب، ولا يجوز وفق مقاله الآخر أن نقول: رحم الله قاسم سليماني.

هل هذا منطق وفقهٌ وعقيدة؟ أم أنه العاطفة والمزاجية؟

تحديد الكافر:

قبل أن نناقش التعامل مع الكافر والترحم عليه، لا بد أن نحدد معنى الكافر.

الكافر هو الذي لا يؤمن بالله ويجحد ذلك من أصله، وهذا هو الملحد، ومن عجائب الدهر أن أحد مشاهير أهل الإلحاد، أمضى حياته في إنكار وجود الله وإنكار القيامة وإنكار الجنة والنار، وأشرطته وتصريحاته مثبتة في الشبكة العنكبوتية وفي مؤلفاته، ولما مات اصطف بعض الإنسانويين في مواقع التواصل الاجتماعي ينثرون عليه الرحمة ويدعون له بها في تدويناتهم، فكيف أطلب لشخص ما عاش مناضلا في إنكاره؟ حتى إذا كنا غير فقهاء وغير علماء، فلنحترم الرجل ورغباته.

والكافر أيضا من ينكر أركان الإيمان كلا أو جزءا، لأن أركان الإيمان متلازمة، لا يمكن للإنسان أن يؤمن بالله وبالرسل والملائكة مثلا، ولا يؤمن باليوم الآخر، فهذا كافر.

وهناك من يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر، ولكنه يؤمن برسول إفرادا، ولا يؤمن بالرسل جمعا، فهذا كافر أيضا. ومنه نقول بأن من لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولا خاتما فهو ليس بمؤمن، وإن كان مؤمنا بالأركان الأخرى.

بقيت مسألة أخرى موضوع نقاش، وهي وجود أناس لم يتوصلوا بالدعوة لعوائق معينة، أو توصلوا بها مشوهة لا يمكن لعاقل أن يعتنقها كما بُلغت له، أو غير ذلك، فهذا موضوع آخر.

أما من لم يؤمن برسالة الإسلام بعد أن وصلته، وكانت له القدرة على البحث والدراسة والتعرف على الحقيقة، فهذا يعد كافرا عن اقتناع. وله الحرية في قناعاته.

التعامل مع الكافر:

للإنسان المؤمن أن يتعامل مع الكافر معاملة سمحة، يبايعه ويهاديه ويعايده ويدافع عنه ويتحالف معه ويدعو له بكل الأدعية، ومنها الدعاء بالرحمة وبدخول الجنة وغيرها، ما دام على قيد الحياة، لأن الإنسان في الدنيا لا ييأس من رحمة الله. ولا يجوز له الاعتداء عليه قتلا أو ما دون ذلك، كما لا يجوز له أن يستولي على ممتلكاته وينهب أمواله. ولا يجوز إكراهه على دين أو معتقد.

ومن التدليس الذي يروجه بعض التنويريين، قولهم عن الرجل الكافر إذا قال لك: السلام عليكم ورحمة الله، فنحن مطالبون برد التحية مثلها أو أفضل منها، فلزم أن ندعو له بالرحمة في رد التحية شرعا، وكأنه بهذا الدليل قد أتى بالبرهان الساطع والنص القاطع، ولم ينتبه إلى أنه يتحدث مع الكافر قيد حياته، ويرد عليه التحية قيد حياته، وحقيق بمثل هذا أن يعطى في ورقة إجابته نقطة الصفر، مشفوعة بملاحظة: خارج الموضوع.

الترحم على الكافر:

نتحدث هنا عن الكافر الذي بلغته الدعوة وكان قادرا على التعرف عليها والبحث فيها ولم يؤمن بأركان الإيمان كلا أو جزءا، ومات على ذلك، هل يجوز الدعاء له بالرحمة أم لا؟

أجمع علماء المسلمين على عدم الجواز، لكن، مع من نتحاور؟

أولا: هناك ملاحدة ولادينيون ينخرطون في هذا النقاش، ومحاورتهم تكاد تُصَنّف في خانة العبث، لأنهم يستغلون كل نقطة ونقيطة لتشويه الإسلام والسخرية منه. فهؤلاء لن يقتنعوا ولو جئتهم بملء الأرض أدلةً وبراهين. أما عبارة: أجمع العلماء … فعندهم مسخرة.

ثانيا: هناك بعض التنويريين الذين نتقاطع معهم في قضايا، ومنهم من يدعو إلى التمسك بالقرآن، والاحتكام إليه، ومنهم من يدعو إلى الاقتصار عليه دون سواه، وهؤلاء يرفضون جوابنا: أجمع العلماء على …، لذا فإننا سنعرض عن ذلك الجواب، وسنعود معهم إلى مائدة القرآن.

الميت الكافر في القرآن:

من المقرر أن دخول الجنة أو النار، ونيل الرحمة أو اليأس منها، لا يُحتكم فيه إلى العاطفة أو المزاج، فتلك قضايا غيبية، لا حُكم في ذلك ولا حَكَم إلا الله ورسوله.

والله تعالى هو ملك يوم الدين، ومالك يوم الدين، له الملك كله، ولا يتدخل فيه متدخل، فالقرار قراره، والحكم حكمه.

فماذا قال سبحانه؟

قال الله تعالى: “وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم”، وهذا جلي واضح في أن الكفار لهم نار جهنم أولا، ولهم الخلود فيها ثانيا.

وهناك من يؤمن بهذا الخلود، لكنه في الآن نفسه يقول بإمكان نيلهم للرحمة الإلهية داخل جهنم بالتخفيف من العذاب، لكن الآية ترد ذلك، كما ستبين آيات أخرى أن العذاب يضاعف ولا يقلّ، أما آيتنا فنصت على أن لهم اللعنة والعذاب المقيم، واللعنة هي الطرد من رحمة الله، وبينها وبين الرحمة حالة تنافي، والعذاب المقيم أي العذاب الدائم، بدليل الآية الأخرى: “يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم”.

يزيد هذه الآية وضوحا قوله جل وعز: “إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون”، وهذا نص صريح في “الذين ماتوا وهم كفار”، فعليهم اللعنات وليس لعنة واحدة:

أولا: لعنة الله.

ثانيا: لعنة الملائكة.

ثالثا: لعنة الناس أجمعين. ولننتبه إلى هذه العبارة، فالناس أجمعون من دون استثناء يلعنون من مات كافرا، وهذا نص الله، وليس نص فلان من الفقهاء أو علان من الأصوليين. واللعنة تتنافى مع الرحمة، وحين يتوجه الإنسان بالدعاء بالرحمة، فإنه يتعارض مع صريح هذا النص، كما يجمع بين الضدين، الرحمة واللعنة !

وإذا تجوزنا اللعنات الثلاث، فإننا نتساءل: ما الهدف من الدعاء بالرحمة؟

لا هدف منها إلا التخفيف من العذاب، والنص يقول بصريح العبارة: “لا يخفف عنهم العذاب”، فكيف نسمع كلام الله الذي يقول بامتناع التخفيف من العذاب، ونتوجه إليه بالدعاء ليخفف عنهم العذاب؟ وما هو التكييف الشرعي لهذه الممارسة؟ هل هي عناد مع الله؟

تبين لنا الآية السابقة أن العذاب لا يخفف عن الكافر، “لا يخفف عنهم العذاب”، وفي آية أخرى يطلب الكفار تخفيف العذاب ويتوسلون في ذلك، ولا جواب لهم إلا الرفض، قال سبحانه: “وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعو ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أو لم تك تاتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار”. هكذا يواجهون بالرفض ابتداء، وتُختم الآية بـ”ولهم اللعنة” أي الطرد من الرحمة والتنافي معها، ولو كانت إمكانية التخفيف بالرحمة واردة لذُكرت هنا، لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة.

وإذا تقرر امتناع استفادتهم من الرحمة وهي التخفيف من العذاب ولو قليلا، فإن الاحتمال المقابل وارد، وهو احتمال زيادة العذاب ومضاعفته، قال سبحانه: “الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب”، وغني عن البيان أن “عذابا فوق العذاب” لا علاقة له بالرحمة مطلقا، وهو ما يتأكد في الآية الأخرى: “إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا”، وفي هذه الآية افتتاح باللعنة المتنافية مع الرحمة، يضاف إلى ذلك: السعير ــ الخلود ــ تقليب الوجوه في النار. ولا يجدون بدا من التوجه إلى الله تعالى بالدعاء كي يضاعف العذاب لساداتهم الذين ورطوهم وأغروهم، فيكون الجواب كما في الآية الأخرى: “حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال لكلٍّ ضعف، ولكن لا تعلمون”، وعبارة “لكل ضعف” تبين التسوية بين أولاهم وأخراهم في مضاعفة العذاب وزيادته.

ورغم هذه النصوص القرآنية التي لم تشر ولو من قريب إلى إمكانية الرحمة والتخفيف من العذاب، فإن البعض يصر على وجود الرحمة وجواز الدعاء بها، ومن أقوى أدلتهم قوله تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء”، لكن استدلالهم هذا هو من باب المغالطة ليس إلا، ولو أكملوا الآية لأدركوا أنهم مشغبين، وتكملتها: “ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذين هم بآياتنا يومنون”، ولا مجال للكفار هنا، واليهود والنصارى الذين آمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مشمولون بهذه الرحمة بنص تتمة الآية: “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل …” وبمفهوم المخالفة، فاليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم غير مشمولين بـ”ورحمتي وسعت كل شيء”.

ومن لم يقتنع بهذا التوجيه، فما عليه إلا أن يقرأ آيتين من القرآن تبينان يأس الكفار من الرحمة بعد الوفاة، وأن “ورحمتي وسعت كل شيء” لا تشملهم.

أولى الآيتين: “يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور” فالكفار من أصحاب القبور ــ وليس الأحياء ــ وصلوا إلى درجة اليأس من نعيم الآخرة، وعوقبوا بالحرمان المطلق منه، وبما أن الرحمة من النعيم، فهم آيسون منها. وهذا هو منطوق الآية الثانية.

ثاني الآيتين: “والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي”، واستعمل الفعل الماضي “يئسوا” لينبه إلى تحقيق وقوعه، ومعناه أنهم سييأسون من رحمة الله استقبالا، وليس حالا في الدنيا.

والتنصيص هنا على اليأس من الرحمة ينقض التشغيب السابق المستند على “ورحمتي وسعت كل شيء”، والنصوص القرآنية تبين أن هناك من تشمله الرحمة، وهناك من يصل إلى درجة اليأس من الرحمة وعدم الاستفادة منها البتة.

وبناء على اليأس من الرحمة في حق الكافر بعد الوفاة، فإن الكفار يطلبون الرضى بعد ما نالهم من الغضب، لكن الله تعالى يمنع عنهم ذلك منعا، “ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون”، ويستعتبون بمعنى يطلبون العتبى، ومعناها الرضى بعد الغضب، ويتكرر هذا المنع في قوله تعالى: “وأما الذين كفروا … فاليوم لا يخرجون منها ولا يستعتبون”، ولو كانت هناك إمكانية أن تنالهم رحمة الله بناء على طلبهم أو بناء على دعاء غيرهم من الأحياء، لبينها الله تعالى هنا، إذ البيان بعد وقت الحاجة لا يجوز كما هو مقرر في محله.

ومما وقفت عليه من استدلالات المدافعين عن جواز الدعاء للميت الكافر بالرحمة، قوله تعالى: “وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”، وهذا توجيه للإنسان بالدعاء لوالديه بالرحمة، ولم يخصص الوالد المسلم دون غيره.

والذي يظهر لي في الآية مسلكان:

الأول: مراعاة السياق تبين أن الآية تتضمن توجيهات للتعامل مع الوالدين حال الحياة، “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” في الدنيا، “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما” في الدنيا ” فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما”، وكل هذا في الدنيا قبل الممات، “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة” في الدنيا أيضا، “وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”، وهذا سياق دنيوي. يمكن لإنسان أن يدعو لوالديه ولغيرهما أثناء حياتهما بالرحمة وإن كانوا على غير ملة الإسلام. وهذا لا أميل إليه.

الثاني: إذا قلنا بعموم “وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا” وشمول الآية لحالي الحياة والوفاة، فإن هذا العموم مخصوص بالنصوص التي أوردناها، ويكفي دليلا على التخصيص التطبيقُ العملي للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، حيث لم يثبت أن أحدا من الصحابة كان يدعو لوالديه أو أحدهما ممن مات على الكفر بالرحمة، وأسلم ابن أبي جهل ولم يثبت عنه أنه دعا لأبيه بالرحمة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نصح أحدا من أصحابه بصلاة الجنازة على والديهم أو أقاربهم الكفار، والصلاة على الجنازة ما هي إلا استشفاع وطلب للرحمة، ومن دعائها: “اللهم اغفر له وارحمه …”. ولو كان ذلك جائزا لبينه صلى الله عليه وسلم.

ما العمل؟

هناك من لا يعتمد على الأحاديث النبوية في مثل هذه القضايا، وهناك من لا يستند إليها إذا لم توافق هواه، لذلك لم نبحث في السنة عما يفيد موضوعنا، ليس لأننا لا نحتج بأحاديثها، حاشا وكلا ومعاذ الله، ولكن لأن كثيرا من القوم لا يتمسكون إلا بالقرآن، ولا يدعون إلا إلى القرآن، فقد آثرنا أن نقتصر على آياته دون سواها، فلم نجد ما نتمسك به على تجويز الدعاء بالرحمة للكافر بعد وفاته.

وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نتعامل مع الميت غير المسلم؟

يمكن للمسلم أن يحزن لوفاة ذلك الميت غير المسلم، ويمكن أن يتفاعل وجدانيا مع تلك الوفاة، ويمكنه أن يبكي ويذرف الدموع، إما للفراق إن كانت تربطه صداقة مع الميت، أو لفداحة الموت الناتج عن حادث أو غدر، وهي حالات لا يبكي فيها ولا يحزن لها إلا كل ذي كبد رطب، بخلاف الجفاة قساة القلوب.

كما يمكن للإنسان المسلم أن يتوجه بالعزاء إلى عائلة الميت وأصدقائه وأقاربه، ويعبر لهم عن مواجيده وأحزانه، ويذكر مناقب فقيدهم ومزاياه، ويغض الطرف عن مساوئه، ويدعو لهم بالصبر والتعويض خيرا.

ولا يجوز في حال الوفاة أن يعبر الإنسان عن حال الشماتة، لأن الموت كأسٌ الكلُّ ذائقه، وليلتفت الإنسان إلى نفسه، وليستصغرها أمام الموت وهيبته وعظمته، وليتوجه إلى العلي القدير بالأدعية اللازمة لذلك، ومنها “اللهم هون علينا سكرات الموت، اللهم أعنا على غمرات الموت، اللهم لقنا حجة الإيمان عند الموت”، وليكن موت الكافر وغيرها درسا للأحياء، وليتذكر الوصاة النبوية: “اذكروا هادم اللذات”.

ولا يجوز للإنسان أن يؤذي الأحياء بذكر مساوئ الأموات، ومن قلة الذوق وسوء الخلق أن يلعن الإنسان الميت بدعوى أنه مات كافرا، كما أنه من سوء الخلق أن يؤذي أقاربه بعبارات لا تقال في تلك اللحظة، فتعمق الجراح، جراح الفراق، وجراح الكلام.

وكان ابن العربي المعافري يقول بأن والدي النبي صلى الله عليه وسلم ماتا كافرين [وهو مخطئ]، ومع ذلك يقول بحرمة لعنهما، لاعتبارين اثنين:

أولهما: أن كفرهما ظلمٌ لنفسيهما، ولم يكن متعديا لغيرهما ككفر أبي لهب وابي جهل.

ثانيهما: أن لعنهما فيه إذاية للنبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: “وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله”.

كذلك الميت الكافر، خصوصا إن كان من أهل الفضل والمروءة، فلا يجوز أن يقال عنه ما يؤذي ذويه وأقاربه، وهذا من الأخلاق الكريمة التي لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متمما لها، أما الانخراط في كل حالة من حالات موت المشاهير في نقاشات لها بداية وليست لها نهاية، واستعمال العبارات المؤذية بالأغيار، فهذا من العرامة والبذاءة وسوء الخلق.

[email protected]

 

 

 

 

 

 

 



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.