مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


«أبو بكر ناجي»: «التوحّش» رؤية إستراتيجيّة للجماعات «الجهادية»

مغربنا 1 المغرب 

ظهر كتاب “إدارة التوحّش: أخطر مرحلة ستمرّ بها الأمّة” لأبي بكر ناجي سنة 2008  ليثير أسئلة تتعلّق بالعقل المنتج لهكذا استراتيجية، ولا أحد يستطيع أن يجزم من هو أبو بكر ناجي، فالثابت أنّ هذا الاِسم هو اِسم حركي لشخصيّة تحجب وجودها، ومن خلال المعلومات الأمنية فقد كان الكتاب متداولا بشكل سريّ منذ سنة 2005 من خلال المراسلات التي تمّت بين قيادات تنظيم القاعدة، ومن ثمّة تكون صياغة النصّ قد تمّت في زمن مراجعات أبي مصعب السوري ومع صعود الحركة الجهاديّة في العراق على يد أبي مصعب الزرقاوي، ولم يكن كتاب إدارة التوحّش الوحيد من حيث الرؤية الاِستراتيجيّة، فظهرت نصوص أخرى ذات عمق فكري ورؤية شاملة لا يمكن أن تصدر إلا عن مراكز بحوث علميّة متخصّصة ومتطوّرة، وكان هناك تداول بين 2005 و2011 لكتابين مهمّين هما: مفكّرة الفلوجة، والمذكّرة الاِستراتيجيّة لعبد الله بن محمّد.

اِختلف المهتمّون بالظاهرة الجهاديّة في هويّة صاحب الكتاب، فتمّ ترشيح ثلاثة أسماء وهي: سيف العدل القائد المنظّر في تنظيم القاعدة، أبو مصعب السوري، ومحمد خليل الحكايمة أحد قادة الجناح الإعلامي في تنظيم القاعدة، وعبر مقارنة بين مؤلفاتهم وكتاب إدارة التوحّش من حيث المنهج والأسلوب، يمكننا أن نستبعد سيف العدل ومحمد خليل الحكايمة لتخصّصهما في المسائل الفنيّة الحربيّة والأمنية الاِستخباراتيّة، بل تكاد تكون طريقة الكتابة وأسلوب التعبير مختلفة تماما، وهذا ما لاحظناه عبر دراسة النصوص، ويبدو أبو مصعب السوري أقرب من حيث الرؤية الاِستراتيجيّة والأسلوب، ومع ذلك نعتقد أنّ تأليف كتاب “إدارة التوحّش” مثله مثل “المذكّرة الاِستراتيجية” كان تأليفا جماعيّا تمّت صياغته بخليط من الأفكار المتشعّبة لرسم استراتيجية جهادية مستقبليّة، وتتضح الصورة أكثر حين نجتهد في تحديد المسار التاريخي لتلك الكتابات وفحواها: قام أبو مصعب السوري بين 2001 و2004 بقراءة نقديّة للمسار الجهادي مؤسّسا لبداية تصوّر الجيل الثالث الجهادي لما بعد القاعدة، ثم كانت “مفكّرة الفلوجة” بين 2004 و2006 تجربة عمليّة صيغت بها نظريّة على أسس مشروع أبي مصعب السوري في المقاومة العالمية، وكان كتاب “إدارة التوحّش” بين 2006 و2010 المخطّط العملي لحركة الجهاديين، فظهر كتاب “المذكّرة الاِستراتيجيّة” سنة 2011 تتويجا للبناء النظري والاستراتيجي الذي بناه جهاديو الجيل الثالث ما بعد القاعدة.

يبدو كتاب إدارة التوحّش أكثر عمقا في تتويج تضحيات جيلين من التجارب الجهاديّة، وهو كتاب يحمل رؤية مستقبليّة أكثر واقعيّة من حيث التخطيط والتنفيذ، وككل مشاريع التأسيس والبناء يفتتح أبو بكر ناجي كتابه بنقد لأطروحات مختلف الحركات الاِسلامية السياسيّة منها والجهاديّة، ولمّا كان موقفه واضحا في علاقة بحركات الإسلام السياسي التي اِنساقت ضمن النظام العام باحثة عن موقع سياسي إلى جانب التيارات الأخرى، فإنّ الحركة الجهاديّة اِجتهدت كثيرا فوقعت في بعض الأخطاء من حيث الرؤية والمسيرة، ولذلك يأتي هذا الكتاب موجّها للحركة الجهاديّة العالميّة، وهو “عبارة عن خطوط عريضة لا تُعنى بالتفاصيل وإنما تترك التفاصيل لفريقين، فريق المتخصصين في الفنون التي تتحدث عنها الدراسة وفريق قيادات الواقع في مناطق إدارة التوحش”، ويقدّم الكاتب تصوّرا شاملا للوضع السياسي الرّاهن، فبعد سقوط الخلافة الاِسلامية تحوّلت الدول العربيّة والاِسلامية إلى نوعين من الدول التي تحكمها إمّا حكومات عسكريّة أو حكومات مدنيّة مسنودة بقوّة عسكريّة، “وتمثلت قدرة هذه الحكومات على الاِستمرار في إدارة تلك الدول بمقدار قوة العلاقة مع هذه القوات العسكرية وقدرة هذه القوات على المحافظة على شكل الدولة، سواءً بالقدرة التي تملكها هذه القوات في شرطتها وجيشها أو القدرة الخارجية التي تدعمها”، وقامت هذه الحكومات على الظلم والاِستبداد وهدم قيم المجتمع وأخلاقه، ولا سبيل إلى ردّ المظالم واِقتلاع الاِستبداد إلا بأحد القوّتين: قوة الجيش أو قوّة الشعوب، ولكن الجيش تمّ تركيعه لفائدة السلطة الحاكمة والقوى الخارجيّة، أما قوّة الشعوب فقد نُزعت تحت وطأة الإعلام ونشر ثقافة اللهو والمجون والفكر الصوفي المستسلم للواقع، ومع ذلك يمكن للقوتين أن تخرج منهما طليعة لم تتلوّث بحاجات الواقع.

في محاولة لتفكيك بنية النظام العالمي، يرى أبو بكر ناجي أنّ هذه الحكومات مرغمة على التبعيّة والعمالة لأخد قطبي العالم بالاِستناد إلى اِعتقاد خاطئ وساذج، وهو قدرة الأقطاب الدوليّة على التمدّد والوصول إلى كافة أرجاء العالم للسيطرة عبر “القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المركز للسيطرة على مساحات الأراضي التي تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي، والخضوع في صورته الأولية المبسطة هو أن تدين تلك الأراضي للمركز بالولاء والتحاكم وتَجبي إليه المصالح”، وأثبتت التجربة الأفغانيّة اِستحالة هذه الفرضيّة حين فشلت القوات الروسيّة في السيطرة على أفغانستان التي لم تكن في أطراف الأرض، والأمر مع القطب الأمريكي يكون مستحيلا، ولذلك حقّق تنظيم القاعدة عبر مقولة الإنهاك والنكاية نجاحا في اِسقاط هيبة أمريكا عالميّا، وتعويض الخسائر البشريّة التي لحقت التنظيمات الجهاديّة بروافد جديدة من الشباب الجهادي، وفي مثل تلك المواجهة بين قوّة المركز (أمريكا) وقوّة الأطراف (الجهاديين) تكون الغلبة للأطراف عجزا من المركز على تثبيت قوّته في الأطراف، فتنهار القوّة المركزيّة لتدخل الأطراف مرحلة التوحّش أو البلاد المتوحشة حيث لا سلطة ولا طاعة ولا خضوع، فتظهر قوّة فطريّة في محاولة تسيير الأمور تسمّى “إدارة التوحّش”، حين تعجز الحكومة المحليّة والقوة الإقليميّة والقوّة الدوليّة عن السيطرة على تلك المناطق التي صارت تعيش الفوضى والتوحّش الفطري وتحتاج إلى إدارته.

يمكن تعريف التوحّش أنه الحالة الفوضويّة التي تعيشها المنطقة السكنية والجغرافيّة بمجرّد غياب سلطة مركزيّة عن تسييرها وتأمينها، وبذلك يكون تعريف إدارة التوحّش أنّه “ إدارة حاجيات الناس من توفير الطعام والعلاج، وحفظ الأمن والقضاء بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش وتأمين الحدود من خلال مجموعات الردع لكل من يحاول الاِعتداء على مناطق التوحش إضافة إلى إقامة تحصينات دفاعية، وترتقي إدارة احتياجات الناس من طعام وعلاج إلى تحمل مسؤولية تقديم خدمات مثل التعليم ونحو ذلك، ويرتقي حفظ الأمن وتأمين الحدود للعمل على توسيع منطقة التوحش”، فحالة الفوضى بعد اِنسحاب الحكومة المنصّبة وهروب القوات العسكريّة الغازية، وفي غياب أي شكل سلطوي يتصدّر الجهاديون المشهد بإدارة الشأن العام وتسييره لحفظ الاِجتماع والعمران، لأنّ الإنسان مجبول على حب النظام ولو كان اِستبداديّا، وحسن إدارة الفوضى المتوحّشة يتطلب: توفير الغذاء والعلاج، توفير الأمن الداخلي والخارجي، توفير القضاء والعدل الشرعي، تدريب ساكني منطقة التوحش ليكونوا كلهم من الجهاديين، توفير التعليم الشرعي أولا ثم الدنيوي، اِستمالة من لم يدخل في حماية إدارة التوحش بالمال، ردع المنافقين، عقد التحالفات مع من لم يعط الولاء للإمارة.. وهذه المهام المتشعّبة تشكّل نواة الإمارة قبل التأسيس والتمكين.

ليست إدارة البلاد المتوحّشة فكرة مبتكرة، بل يعتقد الكاتب أنّ التجربة النبويّة قامت على إدارة التوحش، لأن الجزيرة العربيّة لم تخضع لنفوذ القوتين العظميين البيزنطيّة والساسانيّة، فكان العرب يعيشون حالة الفوضى المتوحّشة، وتجربته المدينة وفّرت لهذا التوحّش حسن الإدارة والتسيير، وتصبح هذه الفكرة نموذجا بارزا في مسار التاريخ الإسلامي، فكل الحركات الاِسلامية التي نجحت في تأسيس إمارة اِسلامية كانت قد أحسنت إدارة التوحّش، بل يذهب أبو بكر ناجي إلى أنّ هذا التصوّر لا يرتبط بالمسار الإسلامي وحده، بل هو تصوّر شامل كوني مارسته الإنسانية عبر التاريخ وكل الدول الغربيّة عاشت تجربة إدارة التوحّش، وفي العالم الإسلامي اليوم لم نبلغ بعد مرحلة إدارة التوحّش لأنّ الجهاد مازال في مرحلة إنهاك العدو، ومن ثمّ فقد قسّم مشروع الحركة الجهاديّة إلى ثلاثة مراحل متتالية ورشّح لكل مرحلة الدول والمناطق المؤهلة لجريان المرحلة:

  • مرحلة شوكة النكاية والإنهاك: تهدف هذه المرحلة إلى توجيه ضربات لأمريكا وحلفائها، لأنهم القوة التي تواجه الجهاد الإسلامي وتحمي عملاءها في العالم الإسلامي، وهذه الضربات يجب أن تكون في مختلف المناطق لتعجيزها عن التدخّل في كل منطقة، ويرشّح الكتاب بعضا من المناطق، والتي لا تعتبر مناطق ثابتة بل يمكن لعديد المناطق أن تدخل في هذه المرحلة حسب تطوّر الأحداث، فمن المناطق المرشحة لخوض مرحلة شوكة النكاية والإنهاك مناطق نيجيريا وبلاد الحرمين واليمن وشمال إفريقيا والأردن وباكستان، وترشيح هذه المناطق يعود لعدّة أسباب منها: “وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح بإقامة إدارة التوحّش.. ضعف السلطة المركزيّة. وجود مد جهادي وانتشار السلاح”، وميزة اِختيار هذه المناطق هو تباعدها في كامل أرجاء العالم الإسلامي وهو ما يخفّف من الضغط الخارجي، فتعجز بقواتها العسكريّة عن التدخّل وغزو كل هذه المناطق، فتوسيع جبهات القتال تشتيت لقوات العدو الخارجي، أما المناطق التي لم ترشّح لمرحلة الإنهاك فلها وظيفة الإسناد، والإسناد يكون بإرسال الجهاديين والدعم المالي.

إنّ مرحلة النكاية والإنهاك تمنح المشروع الجهادي القدرة على تشتيت قوات العدو وتكبيده الضربات النوعيّة التي تجعل من وجوده وبقائه في مناطق العمل الجهادي أمرا مستحيلا، وتمنح مرحلة شوكة النكاية الإسلام الجهادي عبر عمليات نوعيّة حالة إنجذاب لدى الشباب المسلم ليلتحق بالمشروع الجهادي في مناطق التدريب والقتال، وهذه المناطق التي تتحرّر من سلطة أنظمة الردّة ستكون ملاذا للجهاديين في مناطق أخرى لتدريبهم على كيفيّة إدارة مرحلة التوحّش، ويعتقد الكتاب أنّ ذروة مرحلة النكاية كانت في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لأنها أسقطت هيبة أمريكا واستدرجتها لأفغانستان 2001 والعراق 2003، وكبّدتها الخســائر المادية والبشريـة، لتعلن اِنسحابها من عديد المناطق التي صارت مهيئة لمرحلة إدارة التوحش.

  • مرحلة إدارة التوحّش: وهي تخصّ المناطق التي تنسحب منها أنظمة الردّة وتعجز القوة الأمريكيّة عن المغامرة في غزوها، ويركّز الكتاب على هذه المرحلة لأنّها هي التعبير الحقيقي عن المشروع البديل، فالجماهير التي يتسبّب لها الجهاديون في غياب مفهوم السلطة والنظام والقانون تحتاج إلى بديل مقنع وقادر على توفير حاجياتها لتعطي مساندتها للجهاديين، فتكون القناعة أنّ التسيير الجهادي للمدن أكثر عدلا وأمنا من تسيير أنظمة الردّة، ولذلك تكون إدارة التوحّش قائمة على العدل الشرعي والحقوق الشرعيّة في الأمن والغذاء والقضاء والعمل، وفي هذه المرحلة يقع تحويل المجتمع إلى مجتمع مقاتل عبر “رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك لدنيانا وآخرتنا، بل وتبيين وجوبه المتعين ، وأنه ليس معناه أن يمارس القتال كل فرد في المجتمع ولكن أن يكون جزءاً أو ترساً من المنظومة القتالية على الصورة التي يتقنها والتي يحتاجها المجتمع”، ومن مهام هذا المجتمع المقاتل تقديم الدّعم للأقاليم الأخرى التي لم تسقط في مرحلة التوحّش تدريبا لشبابه ودعما لعملياته، ويبقى الهدف الأسمى لهذه المرحلة هو التدرب على الإدارة لتكوين كوادر تمتلك المهارات القياديّة في إدارة الدولة الاِسلامية في مرحلة التمكين وضرورة الاستعانة بالكفاءات التي عملت مع أنظمة الكفر والطغيان.

لقد خصّص الكتاب فصولا بذاتها لمفهوم الإدارة وذلك وعيا منه أنّ الجهاديين يتقنون الجهاد والقتال في ساحات الحرب ويعجزون عن إدارة شؤون النّاس بعد الاِنتصار في المعارك، وبذلك لا قيمة للاِنتصار العسكري إن لم يتبعه حسن في الإدارة وتسيير شؤون الناس حتى يكونوا في صف المجاهدين، ولذلك يستند الكاتب على قلب القاعدة النظريّة فيصبح “كل قائد جهادي مديرا للإدارة والتسيير”، فالمسألة الإداريّة تفصل بين الذي يحمل مشروعا للتغيير من الذي يقاتل لأجل القتال فقط، وفي الجانب القتالي قدّم الكاتب استراتيجيا القتال الجديدة في التعامل مع القوات العسكريّة النظاميّة، مستفيدا من التجارب السابقة، وبحسب جاهزية العدو وتمركزه تكون “قواعد معدل العمليات : فهي إما تصاعدية أو بمعدل ثابت أو في صورة أمواج وأحياناً تكون مراحلنا فيها كل هذه المعدلات”، وعليه فإنّ حماية مناطق إدارة التوحّش وتوفير الأمن لا يجب أن تتوقف العمليات الجهادية إنهاكا وتمكينا، فمرحلة إدارة التوحّش هي المرحلة المفصليّة في كسب مرحلة شوكة النكاية وتتويجها بتحرير المناطق المحيطة لإعلان الإمارة الإسلاميّ.

يقدّم الكتاب المنهج الشامل لمرحلة إدارة مناطق التوحّش، فهو يوصي باِعتماد الشدّة في القتال والجهاد، “ومن مارس الجهاد من قبل علم أن الجهاد ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان، وأنه لا يمكن أن يستمر القتال وينتقل من مرحلة إلى أخرى إلا إذا كانت مرحلة البداية فيه مرحلة إثخان في العدو وتشريد به”، فالشدّة في القتل ترهيب للعدو وتطويع للمنافق والخائف المرتبك، ويكون الشاهد في هذه الوصيّة تاريخ الجهاد في الإسلام المبكّر، فما آتاه النبي وصحابته من قتل وتشريد ساهم في تطويع الجزيرة العربيّة بالطاعة والولاء، فالشوكة رهبة وخوف تتبعها طاعة واِستسلام، ويشترط الكاتب في القيادة العسكريّة لإدارة التوحّش أن تكون على دراية بالممارسة السياسيّة، بل يجب أن يكون القرار السياسي في يد من يقاتل حتى يبسط السيطرة على المجال البشري بحسن القتال وحسن التسيير.

  • مرحلة شوكة التمكين وقيام الدولة: لم يخصّص الكتاب الكثير لهذه المرحلة، فقد كانت المرحلة الأولى شوكة النكاية والإنهاك تقييما لأفعال منجزة ما قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فالكتاب حين ركّز عن مرحلة إدارة التوحّش كان يحمل قناعة أنّ المسار الجهادي يعيش تلك المرحلة لحظة وضع الكتاب ليأتي هذا التصوّر سدّا لثغرات الحركة الجهاديّة حين عجزت عن التحوّل بمناطق التوحش نحو مرحلة التمكين واِعلان الدولة الاِسلامية، ربّما فكّر الخبراء في فشل التجارب في صعيد مصر وأفغانستان والصومال والمغرب الإسلامي، ليقدّموا هذا المشروع للتجربة الجهاديّة في العراق، فمرحلة شوكة التمكين تقتضي النجاح باِمتياز في مرحلة إدارة منطقة التوحّش، وذروتها “أن تتحقق الشوكة بالموالاة الإيمانية فعندما يحصل كل فرد في المجموعة أو في منطقة التوحش – مهما قل شأنه – على الولاء من باقي الأفراد ومن ثم يعطي هو الولاء للباقين بحيث يكون هو فداء لهم وهم فداء له، من ذلك تتكون شوكة من هذه المجموعة في مواجهة الأعداء”.

إنّ التعبئة والتجنيد لها قواعد وشروط حتى يقع الاِنزياح من مرحلة إلى مرحلة، “فمعرفة قواعد الاِلتحاق وممارستها والتعود عليها يسهل الطريق للقيام بالخطوة الأولى في المرحلة التي تلي مرحلة إدارة التوحش وهي مرحلة قيام الدولة، لأن الخطوة الأولى في تلك المرحلة هي قيام قائد أو مجموعة بجمع شتات المجموعات والمناطق تحت راية واحدة لتتكون بهم شوكة التمكين، كذلك عند الاِنتقال من مرحلة شوكة النكاية إلى مرحلة إدارة التوحش يتطلب الأمر ممارسة قواعد الاِلتحاق حيث تلتحق أكثر من مجموعة من المجموعات الصغيرة التي تقوم بالنكاية ببعضها البعض لتكوين شوكة تقوم بإدارة التوحش الناتج عن النكاية”.

كان هناك عقل جهاديّ يفكّر وينتج ويطوّر خبرته ضمن سياقات حركيّة محليّة وإقليميّة ودوليّة، ولكن كانت شهرة كتاب “إدارة التوحّش” حين أفرجت عنه وزارة الدّفاع الأمريكيّة سنة 2008 قد غطّت عن المنجز المعرفي النظري الآخر، فقد عُرف عن الجهاديين كتاباتهم الكلاسيكيّة عن الجهاد والتي تجترّ الموروث وإن بصيغ مختلفة، لكن لحظة أبي مصعب السوري ثم الأسماء الحركيّة الأخرى لأبي بكر ناجي وعبد الله بن محمّد كانت نهوضا بالمشروع الجهادي مع الجيل الثالث الذي أدرك الثورات العربيّة بداية من سنة 2011، حين كتب عبد الله بن محمّد في المذكّرة الاِستراتيجيّة قائلا: “ومن أجل توضيح هذه النقطة سأكشف عن مضمون رسالة كنت قد كتبتها للشيخ أسامة بن لادن رحمه الله بــــعد نجاح الثورة المصرية ولكن الأجل كان أسرع من الرسالة إليه .. وألمحت في مقالتي “اِستراتيجية التمكين لأنصار شريعة رب العالمين” عن لب تلك الرسالة عندما ذكرت أن الثورات العربية في محصلتها النهائية ما هي إلاّ كيوم “بُعاث” الذي قُتلت فيه صناديد الأوس والخزرج واِضطربت فيه موازين القوى في المدينة ليُفتح المجال بعد ذلك أمام أي قوة فتية تصلح للقيادة وتستطيع ملأ الفراغ فكان الأمر مثلما وصفته عائشة رضي الله عنهاكان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وافترق ملؤهم وقتلت سرواتهم”.



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.