مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


حوار مع الفيلسوف العربي هشام غصيب…من دون فلسفة نظرية ليس هناك معرفة حقيقية

انتلجلنسيا المغرب

تواضع العلماء كله يجتمع في محيـّاه، تواضع يعكس كبرياء وعظمة الفكر الجاد والمسؤول. فهو ليس لنفسه بقدر ما هو لغيره ولفكره النقدي والموسوعي. هذا الفكر يلحّ عليه بضرورة حل لغز القدر التاريخي للهمّ الإنساني.. إنه الدكتور هشام غصيب، الباحث والمفكر الذي يسهر مع الفلسفة على كل إشكاليات الواقع بعامة، والواقع العربي بخاصة؛ فالفلسفة لديه، إيقاظ للفكر، وتحريك للنقد صوب التغيير والتطوير وإعادة البناء. هاجسه تحرير الإنسان وصولاً به إلى الكرامة التي يستحقها.

سؤال: ما هي الفلسفة برأي هشام غصيب؟

جواب: يعد هذا السؤال سؤالاً محورياً في الفلسفة نفسها، وقد تعددت الرؤى في تاريخ الفلسفة حول طبيعتها بصورة مربكة حقاً، ولكن يمكن القول إن الفلسفة تُعنى بالشروط الذهنية للممارسة البشرية، ومن ثم فهي المرشد الأعمق لهذه الممارسة سواء كنا نتكلم عن الممارسة المعرفية، أو الجمالية، أو السياسية، أو الأخلاقية. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشوئها بالعلم والرياضيات، وهذا ما نلمسه منذ بداياتها الأولى في الحضارة الإغريقية القديمة، إذ غلب عليها آنذاك التنظير للمعرفة الرياضية والفيزيائية من جهة، وللأخلاق والسياسة من جهة أخرى. وظلت هذه الصلة الجوهرية قائمةً حتى في العصور الوسطى الدينية الطابع. لكن طغيان الثقافة الدينية آنذاك جعل الفلسفة تتمحور حول الدين أكثر من تمحورها حول العلم. وكانت إلى حد ما أسيرة علمي الكلام واللاهوت. لكن الحقبة الحديثة التي ابتدأت بعصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي غيّرت ذلك تماماً، وحررت الفلسفة من قيود الدين، وأعادت الأمور إلى نصابها في ما يتعلق بالصلة العضوية بين العلم والفلسفة. ويمكن القول إن الفلسفة تشكل بعداً جوهرياً من أبعاد العقل النظري في ثقافة ما، وهي تدخل مع العلم في علاقة عضوية في تشكيل هذا العقل. ولذلك أقول، إن العلم يفترض الفلسفة مثلما أن الفلسفة تفترض العلم. هناك علاقة جدلية بين الطرفين، أي علاقة تتضمن التماثل والتناقض؛ فالعلم يشكل مصدراً أساسياً لتغيير الفلسفة ونقدها، كما إن الفلسفة لها وظيفة نقد العلم والدفاع عن قيمه في الآن ذاته. ومن العبث الظن أنه يمكن لحضارة حديثة أن تبنيَ علماً تطبيقاً من دون علم بحت، ومن ثم من دون فلسفة. لذلك نجد أن الحضارات الكبرى المؤثرة في التاريخ، منذ أيونيا الإغريقية على الأقل، كلها بنت عقلاً نظرياً، عماده الفلسفة والعلم في آن واحد. وهذا الأمر ينطبق على الحضارة الإغريقية، بما في ذلك امتداداتها الشرقية، وعلى الحضارة العربية الإسلامية، بما في ذلك امتداداتها الغربية، والحضارة الأوروبية الحديثة. أما في عصر الانحطاط الذي نعيشه، فنشهد فيه أفكاراً مسطحة تروج، وتعتبر الفلسفة والفكر النظري ترفاً لسنا في حاجة إليه. وتدعو إلى التركيز على العلوم التطبيقية وحدها، وتسعى إلى تهميش الفلسفة وحتى العلوم البحتة. وهذه الأفكار هي نتاج الانحطاط وتراجع الحركات النهضوية العربية. إذ إن أي حركة نهضوية جدية ينبغي أن تستوعب شروط النهضة، وفي مقدمتها بناء قاعدة معرفية ترفد القاعدة الصناعية، ومن دون فلسفة نظرية ليس هناك معرفة حقيقية.

مداخلة: ماذا بشأن السرديات الكبرى وتصدّع الميتافيزيقا..؟

جواب: إن المقولة الأساسية لتيار ما بعد الحداثة أن عصر السرديات الكبرى قد انتهى بعد أن كشف هذا التيار سرّ هذه السرديات، وتعود هذه الفكرة في الأساس إلى نيتشه الذي افتخر في أنه لا يلتزم بسردية شاملة متماسكة بل وعدّ هذه السرديات تعبيراً عن انحلال حضاري، وكان هذا أساس نقده لـهيغل. وتعمقت هذه الفكرة لدى هيدجر الذي نقد الميتافيزيقا الغربية واعتبرها منتهية تماماً، ثم تلقّـف تيار ما بعد الحداثة هذه الفكرة، ووصلت أوجها في جاك دريدا الذي شطب أساس السرديات الكبرى من هجيلية وماركسية وربما وجودية أيضاً. هذا في ما يتعلق بالفلسفة الأوروبية، في القارة الأوروبية. أما الفلسفة الإنجليزية فقد اتخذت مساراً مختلفاً تماماً، إذ إنها نقدت الميتافيزيقا مبكراً، واختزلت وظيفة الفلسفة إلى التحليل اللغوي والمنطقي ونقد اللغة. وأحسب أنها ما زالت ماضية في هذا الطريق. فهل يعني ذلك موت الفلسفة التقليدية في الغرب ؟– ربما. بل حتى الماركسية ساهمت أيضاً في شيوع فكرة موت الفلسفة، إذ إنها اعتبرت العلم الماركسي نقيضاً للفلسفة التقليدية ونظاماً فكرياً علمياً يتخطى الفلسفة. وبرغم بروز ماركسيين كبار في القرن العشرين مثل لوكاتش وغرامشي وألتوسير، ومدرسة فرانكفورت، إلا أن الطابع الغالب في الأوساط الماركسية كان معادياً للفلسفة. لدينا إذن ثلاثة تيارات فلسفية رئيسية تميل إلى نفي الفلسفة بالمعنى التقليدي، وكما مارستها البشرية منذ أفلاطون.

أما أنا، فأعتقد أن نمط التفكير الفلسفي سيستمر ما دام هناك ممارسة بشرية واعية، وما دام هناك معرفة وعلم. لكن الفلسفة تأخذ أشكالاً تتعدد بتعدد هذه الممارسات؛ فلئن تراجعت السرديات الكبرى، فإن هذا لا يعني أن الفلسفة في حد ذاتها انتهت. فلا أستطيع أن أتصور إنتاج علم أساسي معقد كالذي نشهده اليوم من دون أن يثير إشكالات فلسفية تستلزم وجود أنماط فلسفية معقدة ومتطورة أيضاً. إن الذي تغير حقاً هو شكل ممارسة الفلسفة. أما حلم فتجنشتاين الشاب، بأن ينهي الفلسفة بمعادلة لغوية منطقية، فهو مجرد حلم لم يتحقق كما أدرك فتجنشتاين نفسه لاحقاً. لكن فكرة انتهاء الفلسفة ملازمة للفلسفة الحديثة، وهي تظهر بين الفينة والأخرى، إذ نجدها قائمةً في فلسفة هيوم وكانط، وقد عادت إلى الظهور لدى فتجنشتاين ودائرة فينا، ونجد أصداءها أيضاً في تيار ما بعد الحداثة. وعلينا أن نسأل أنفسنا دوماً: لماذا تحتاج الفلسفة إلى نفي ذاتها بين الفينة والأخرى؟ وليس لدي إجابة جاهزة على ذلك.

سؤال: هل لديكم فلسفة خاصة؟

جواب: لدي موقف فلسفي، أزعم أنه متماسك، ترتبط فيه تجربتي العلمية بتجربتي الحياتية العامة، بما في ذلك تجربتي الأدبية والجمالية والسياسية والأخلاقية والتربوية؛ وهذا لا يعني أن هذه الرؤية الفلسفية منبتّـة عن الواقع الفكري العربي والعالمي، فأنا أعتبر أن رؤيتي الفكرية تندرج ضمن التيار العريض لحركة التحرر القومي العربية، وحركة التحرر العالمية ماركسية الطابع. إنني لم أسعَ إلى بلورة فلسفة خاصة بي، ولكني أنتجت رؤية فكرية متماسكة في سياق انخراطي في الصراع الفكري ومحاولتي فهم العالم والانخراط في تغييره. والنقطة الجوهرية هنا، أن هذه الرؤية محددة المعالم ومتماسكة؛ بحيث إن تجاربي المتنوعة العلمية والسياسية والأخلاقية والجمالية، تلتقي كلها ضمن إطار مفاهيمي متماسك، ولا تُفهم بمعزل عن بعضها. لقد جابهت مشكلات استراتيجية في مسيرتي، وطورت أفكاري في سياق محاولة حلها، ولذلك أعتقد أن كتاباتي الفكرية تتضمن فلسفة محددة، لكني لا أستطيع القول إنها فلسفتي وحدي؛ إنها جزء من تيار تاريخي أساسي.

سؤال: الفلسفة استكشاف للحاضر كما رأيناها مع فوكو، وخارقة للزمن كما اعتبرها بول ريكور. إذ يقول: إن “كل الكتب مفتوحة على طاولتي، لا كتاب أقدم من كتاب، ما زال حوار أفلاطون حاضراً الآن بالنسبة لي. ورغم ارتباطه بالزمن فإن الزمن لم يدركه مثل اقتصاد اليونانيين، ويمكن تجريده من سياقه كما يمكن تنـزيله في سياق جديد”. وهذا القول يؤكد بصورة ما أن المسافة بيننا وبين الماضي ليست فاصلاً ميتاً، بل تحويل إبداعي للمعنى.. هل من تعقيب على ذلك؟

جواب: أفهم من ذلك أن بول ريكور يؤكد سكونية الفكر الفلسفي، وعدم خضوع الفلسفة في جوهرها للزمن التاريخي، وكأن الفلسفة منذ أفلاطون هي مجرد حواشي على أفلاطون كما عبّر عنها وايتهيد. لكني لا أعتقد ذلك، بل أعتقد أن الفلسفة تتطور شأنها شأن العلم، وإن كان مسار تطورها أكثر تعقيداً بكثير من مسار تطور العلم. إن تاريخ الفلسفة شهد تطورات حقيقية، لكن الفرق بين تطور الفلسفة وتطور العلم هو أن الأفكار الفلسفية الجديدة لا تلغي قيمة الأفكار الفلسفية القديمة؛ بعكس العلم الذي تنفي أفكاره الجديدة بالفعل أفكاره القديمة، وتُحدُّ كثيرا ًمن قيمتها. لكن يمكن قول الشيء ذاته عن الرياضيات؛ إن الهندسة الحديثة تعد تطوراً كبيراً في مسيرة الرياضيات، لكنها لم تلغِ هندسة إقليدس، ولم تنفِ قيمة تلك الهندسة. وكذلك الأمر مع الفلسفة، فـهيغل شكّل تطوراً كبيراً بالنسبة إلى أفلاطون، لكنه بالتأكيد لم يلغِ أفلاطون. لدينا تراكم حقيقي في الفلسفة، وأساس ذلك هو أن الفلسفة في جوهرها تنظير للمارسة البشرية، أي البحث في شروط هذه الممارسة وأسسها وأرضياتها الذهنية. ولما كانت الممارسة البشرية متنامية ومتطورة باستمرار، باتت الفلسفة أيضاً متنامية ومتطورة باستمرار؛ وعلينا أن نتذكر أن هناك جوانب في الممارسة البشرية ثابتة، مثل تجربة الولادة والنضوج والألم والمرض والشيخوخة والموت، فهي مشتركة في جميع الممارسات البشرية عبر التاريخ. لذلك نجد أن المحاولات الفلسفية في معالجة هذه الإشكالات البشرية الدائمة لا تفقد قيمتها مع الزمن. لكن الفلسفة تظل وليدة عصرها، وإن كانت تتخطى عصرها في استشرافها المستقبل. ونجد هذه السمة أيضاً في العلم والأدب والفن والموسيقى. من يُنكر أن موسيقى بيتهوفن هي وليدة عصر الثورة الفرنسية – لكن من ينكر أيضاً أن قيمتها تتخطى عصرها باستمرار. هذا التناقض في عملية الخلق الإنساني ليس خاصاً بالفلسفة، لا أزعم أن هذه الفكرة خالية من الإشكالات، لكنها حقيقة ينبغي أخذها بعين الاعتبار. وهي لغز على أية حال، لفت النظر إليها بجلاء كارل ماركس في بعض كتاباته، ولا أملك تفسيراً لها: كيف يتولد الخلود من باطن اللحظة الزائلة! إنه يتولد بالفعل في الأعمال الفنية والفكرية والموسيقية والأدبية، لكن أمر تولده يشكل لغزاً حقيقياً.

مداخلة: هناك من يرى بصورة ما أن لكل حضارة أو أمة فلسفتها الخاصة؟

جواب: لا أعتقد أن لكل أمة فلسفتها الخاصة. وعلى أي حال، الفلسفة نشأت قبل تشكل الأمم بالمعنى الواضح. إن الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد لم يكونوا أمةً بالمعنى الحديث، وإنما كانوا حضارة ممتدة وغير واضحة المعالم، وكذلك الأمر مع العرب والفرس والترك في سياق نشوء الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية. لكن هناك تفاوتاً في الإنتاج الفلسفي بين الحضارات عبر التاريخ والأمم الحديثة؛ وعلينا أن نسأل أنفسنا لماذا نَـبَغَ الإغريق منذ أكثر من ألفي عام في الفلسفة وتميزوا عن الحضارات الأخرى؟ ولماذا نبغ في العصور الوسطى العرب والفرس وتميزوا عن الشعوب الأخرى؟ ولماذا نبغ الفرنسيون والألمان والإنجليز في الحقبة الحديثة (في الفلسفة) وتميزوا عن العالم كله في ذلك؟ إن الإنتاج الفلسفي يتعلق بوضع الحضارات والأمم في السياق العالمي، لكن هذا لا يعني أن لكل حضارة فلسفتها أو لكل أمة فلسفتها. فالأمة الألمانية الحديثة على سبيل المثال أنتجت فلسفات متنوعة جداً، من فلسفة ماركس إلى شوبنهور إلى فلسفة هوسرل وهيدجر إلى فتجنشتاين ودائرة فيينا. هناك تنوع مذهل فيما أنتجته من فلسفات. إذن نستطيع القول إن الأمة الألمانية مكنتها ظروفها الحديثة من النبوغ في الفلسفة، لكن هذا لا يعني أن لها فلسفتها الأحادية الخاصة.

سؤال: هل لكم موقف من الفلسفة الوجودية ؟ يرى على سبيل المثال كارل ياسبرز أن السبيل الوحيد لإيقاظ الحقيقة الباطنية هو قانون حرية الإنسان.. هو وجودنا الحميم؛ فهناك الموت والألم والعجز والإخفاق وإدراك لاتناهي العالم، وهناك الخيال السابح والتجربة الجمالية.

جواب: يحضرني في هذا المقام قول سارتر بأن فلسفة العصر هي الماركسية، لكن الوجودية ضرورية لإذكاء النار في فلسفة العصر هذه؛ فالوجودية تسد الثغرات الموجودة في البناء الشامخ والمعقد لفلسفة العصر. من دون شك أن الوجودية نشأت في ظروف معينة في أوروبا .. ظروف الإحباط التاريخي المتمثل في عشوائية الثورات الاجتماعية وهزائمها المتكررة، ونشوب الحروب العبثية، وضياع الفرد في عالم يسوده العنف العشوائي، والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية. لكن وجود الفرد وإشكالية حياة الفرد، تجعل من الوجودية مشروعاً متجدداً. إن هناك لاعقلانية غير مستحبة في المدرسة الوجودية على تنوعها. ولا شك أن هناك ظلامية ضارة سياسياً فيها؛ ألم يشكّل هيدجر قاعدةً فكريةً للنازية الألمانية، وألم يشكّل جنتيلي الإيطالي مثل هذه القاعدة للفاشية الإيطالية، ولكن مع ذلك فإن هناك حاجةً متكررةً للوجودية برغم لاعقلانيتها، لأنها تخاطب جوانية الإنسان بطريقة لا نجد مثيلاً لها في الفلسفات الأخرى. إن مشكلة محدودية الفرد الإنساني تظل قائمةً حتى في المجتمع الشيوعي. ومهما صلُح وضع المجتمع يظل الفرد مشروع قلق وجودي، وهذا هو أساس تجدد الوجودية. إننا نجد نزعات الوجودية في الفلسفة والأدب على مدار تاريخهما. وأحسب أن المستقبل المنظور سيولّد أشكالاً جديدةً من الوجودية على هذين الصعيدين.

مداخلة: هذه الإجابة القيمة والثرية حول الفلسفة الوجودية، توقظ تساؤلاً لدي أخذ غفوةً من الزمن.. نفهم من الإجابة أن الفلسفة الوجودية ستستمر وستتجدد، مادام الفرد سيمضي كمشروع قلق وجودي. والسؤال هو: إذا كان القلق الوجودي عصياً على التوقف والانتهاء، ألا يعني ذلك أننا بصدد واقعية صلبة متماسكة ومتواصلة لا تقل أهمية عن الواقعية المادية كالتي نجدها في البنى التحتية مثلاً؟ لماذا لا تكون الوجودية عقلانية بقدر ما، في سعيها لمساندة القدر التاريخي للإنسان؟ ولماذا لا تكون أيضاً، عقلانية بقدر ما، تفرض نفسها في منطق دينامية القلق والصراع الإنساني؟

جواب: الأساس في الوجودية هو الفرد بالمطلق.. مقدمة الوجودية هي الفرد بالمطلق. والفرد ليس بصفته عقلاً، وإنما بصفته ذاتاً، ذلك الفرد الحائر، الفرد المتألم، الفرد التائه، الفرد الضائع. هذا هو الأساس في الوجودية، وهو المعطى الأول، بمعنى أنك لا تستطيع أن تختزل الفرد إلى ما هو أكثر جذرية ويقينية منه. لذلك احتج كيركغور، أبو الوجودية، على هيغل، الذي عدّ الفرد ألعوبة في يد قوانين التاريخ.كيركغور يقول إن الفرد هو الحقيقة الأساسية، وليس الفرد بصفته ذاتاً عاقلة، وإنما الفرد بصفته ذاتاً متألمة، ذاتاً قلقة. هذا الفرد هو الذي يخلق المعنى أو القيم أو المعايير. الفرد هو الوجود الذي يسبق الجوهر مثلما عبّر عنه سارتر، بعكس ديكارت الذي يرى أن الشيء اليقيني الوحيد هو الأنا المفكرة، بينما في الوجودية الشيء اليقيني الوحيد هو الأنا القلقة، المتألمة، الأنا اللاعقلانية، الأنا الشاعرة.

هناك تركيز في الوجودية بوصفها مجموعة من الفلسفات، على الجوانب اللاعقلانية في الإنسان، كالعواطف والإرادة العمياء والرغبة والقلق الميتافيزيقي، ونجد ذلك بجلاء لدى كيركغور، ونيتشه، وهيدجر، وياسبرز، وسارتر. فهناك نزوع لاعقلاني في قلب الفلسفة الوجودية وبعكس ديكارت، الذي جعل العقل محور اليقين، أو هيغل، الذي جعل العقل محور التاريخ والوجود، فإن الوجوديين يهمشون العقل لصالح الملكات البشرية الأخرى، ويعتبرون الفرد معطى يفسر كل شيء عداه، أي أنهم يخرجون الفرد خارج إطار التفسير العقلاني، ويعتبرون الفرد المشيئة المطلقة التي تخلق القيم والمعايير والمعنى. لذلك قال سارتر إن الوجود يسبق الجوهر. إن الفرد- اللغز وفق الوجوديين يحل محل الله في فلسفة العصور الوسطى. وهذا الأساس هو لاعقلاني في جوهره. وهنا، لا أدين الفلسفة الوجودية، ولكن أبيّن حدودها. إنها بلا شك تعبر عن الوضع الإنساني بصورة من الصور، وعن الرعب الذي نعيشه بوصفنا أفراداً وحيدين في النهاية. لكنها لا تستوعب التجربة الإنسانية برمتها، فلها حدودها التي ينبغي تذكّرها دوماً. لذلك لا أستطيع أن أتصور وجودية عقلانية، (ربما كانت الوجودية نوعاً من الترف البرجوازي).

سؤال: دعنا نذهب إلى مسألة أخرى أرى أنها تستحق النظر؛ ففيها ما هو شائك وغامض. إنها مسألة التمييز بين الفلسفة والعلم..ومن منهما يتبع الآخر إن كان هناك تبعية ؛ فالفلسفة تتميز بالشمولية والكلية كما يدور الحديث في بعض أروقة الفلسفة: هناك الكينونة مثلاً التي تتعقد أكثر فأكثر مع تحولات الزمن والحياة. بينما يفتقر العلم إلى الكلية التي توحِّد النظر إلى الإنسان في العالم وتجمعه في الأنسنة؛ بهذا المعنى يبقى العلم بعيداً عن تناول القيم والمشاعر والهموم الإنسانية. لكن عالم العلم والعلم الدقيق، قادر على تحقيق التقدم وتوسيع المعارف بصورة مستمرة، ما دامت الإكتشافات العلمية مستمرة. وفي بُعد آخر تأتي الفلسفة متأخرة، كبومة منيرفا التي لاتحلق إلا عند حلول الغسق كما في فلسفة هيغل . والسؤال: كيف تفسِّر العلاقة بين الفلسفة والعلم؟ وهل باتت الفلسفة تابعة للعلم، رغم الأسبقية الزمنية للفلسفة، وربما المنطقية، فتغدو المحرك والحافز للبحث العلمي وللمعرفة الجزئية المتخصصة. ما تعليقكم؟

جواب: يحضرني في هذا المقام إصرار هيغل على أن الفلسفة هي العلم الكلي المعني بالحقيقة الكلية اليقينية، وأن العلوم الجزئية هي مجرد هوامش للفلسفة، وأنها حالات معرفية أدنى من الحالة الفلسفية . لكن التطور الفيزيائي الحديث والرياضيات يلقيان الشك الكبير على مقولة هيغل هذه؛ فالنظرية الفيزيائية تُعنى بالكليات، وأضحت كونية الجوهر. وهذا ينطبق على نظرية آينشتاين في النسبية العامة، وعلى ميكانيكا الكم (الكوانتم)، وعلى نظريات المجال الموحد، فهي تستوعب الوجود المادي برمته، ولا تكون متماسكة ما لم تكن كونية. لذلك يمكن القول إن العلم الأساسي هو من الشمول والتجريد ما يجعله موازياً للفلسفة في هذا المقام. كيف نميّز إذن بين العلم والفلسفة؟: هذا التمييز مسألة عويصة في تاريخ الفلسفة. أرى أن الفلسفة تتميز في طبيعة موضوعها. إن كليهما يغوص في موضوعه ويسعى إلى الأسس والأرضيات، ولا يتوقف عند حد في ذلك. لكن العلم ينطلق في ممارسته من افتراضات (سمّها فلسفةً إن شئت)، كوجود الطبيعة والعلاقات السببية، وهذه الافتراضات تشكّل موضوعاً للفلسفة؛ فالفلسفة تبحث في أرضية هذه الافتراضات ومدى انسجامها والعقل. وبذلك إن الفلسفة تبحث عن الشروط الأنطولوجية الذهنية للنظم والممارسات البشرية المعرفية والجمالية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

صحيح أن الفيزياء الحديثة في بعض جوانبها شكّكت في هذه الافتراضات، وما زالت تشكك فيها؛ إلا أن هذا التشكيك يأتي في سياق ممارستها الاعتيادية، أي التنظير الرياضي والتجريد. أما الفلسفة فشغلها الشاغل هو التساؤل بصدد هذه الافتراضات، لذلك نجد أنها تفكر باستمرار في الوجود في حد ذاته، والعلاقات السببية في حد ذاتها، وغيرها من افتراضات الممارسة الإنسانية أو البشرية.

أما بخصوص العلاقة بين العلم والفلسفة، وكما سبق أن قلت، فإنها خاضعة للتطور التاريخي. لقد كان العلم منذ الحضارة الإغريقية وحتى الحقبة الحديثة ليس تابعاً للفلسفة حسب، وإنما كان مشتقاً في مبادئه الأساسية من الفلسفة. هذا شأن أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد وتوما الأكويني، فكانت الفلسفة قيد العلم، وسجله. لكن تطور الحقبة الحديثة أدى إلى انفكاك العلم من إسار هذا النمط من التفلسف وشق طريقه بثقة، بمعزل نسبي عن الفلسفة؛ فانقلبت الآية وأصبحت الفلسفة تجر نفسها وراء العلم وعلى دربه. هل أصبحت إذن تابعة للعلم؟.. بدون شك أن العلم أصبح محركاً أساسياً لتطور الفلسفة، وربما أكثر من أي مجال آخر. وقد انبهرت الفلسفة الحديثة بالعلم إلى حد أنها تبنّت كثيراً من أساليبه وطرائقه، لكنها مع ذلك لم تصبح تابعةً تماماً للعلم؛ فتبعيتها الكاملة للعلم تعني نهايتها. لذلك يمكن القول إن هناك علاقة جدلية نقدية بين الطرفين، وإن كانت الغلبة في أغلب الأحيان هي للطرف العلمي. وهناك أمثلة عديدة على ذلك: ألم يكتب سبينوزا كتابه “الأخلاق” على غرار الهندسة النظرية، وألم يعتبر كانط فيزياء نيوتن مرجعيته التي لا تضاهى. ولكن في المقابل ألم يعلِ هيغل الفلسفة فوق كل العلوم ويوجه نقداً حارقاً إلى العلوم كافة بما في ذلك الرياضيات، ألم يشكل نقد ماخ وبرادلي الفلسفي أساساً للنظرية النسبية لآينشتاين؟

سؤال: هيغل محطة كبرى وهامّة في تاريخ الفلسفة.. “أوج الفلسفة” كما يقال. لدينا عبارته الشهيرة: “كل ما هو عقلي واقعي، وكل ما هو واقعي عقلي”- هنا نتعامل مع طرفين: العقل/ والواقع. السؤال: هل هذا القول يعني أن الأولوية للعقل برغم جدل الصيرورة؟ وإن صحّ هذا، فإن ذلك يعني أن مفهوم الواقعية مجرد “فعل من خلال الخلق أو الإبداع”. أسأل هذا السؤال في ضوء انتصاركم لجوانب من فلسفة هيغل في واحد من مؤلفاتكم وهو “نقد العقل الجدلي”.

جواب: إن قول هيغل هذا يلخّص فلسفته برمتها، ولهذا القول أبعاد، وقد لا تكون هذه المقابلة هي المجال المناسب لبيانها. ولذلك سأركز على جانب واحد منها، وأحاول تقديم تأويل لهذا القول ارتكازاً إلى فهم صيرورة الفلسفة الأوروبية منذ ديكارت. ونقطة البدء في هذا التأويل هي الأنا المفكرة لـديكارت؛ فقد نقل ديكارت محور العالم من الله إلى الأنا المفكرة، وعدّ الأنا المفكرة يقينيةً في ذاتها، مثلما عدّ فلاسفة العصور الوسطى الله يقينياً في ذاته. وانطلق من يقينية الأنا المفكرة لكي يسبغ نوعاً من اليقينية على الطبيعة وعلى الله. وقد التقط كانط هذه الفكرة من ديكارت ووسّعها بحيث لم يكتفِ باعتبار الأنا المفكرة مصدر اليقين، وإنما عدّها أيضاً مصدر النظام في الكون؛ ومعنى ذلك أنه اعتبر وحدة الكون تعبيراً عن العقل. وقد أوصل هيغل هذه الفكرة الديكارتية إلى أوجها حين جعل العقل أساس الوجود برمته، فاعتبر كل موجود عقلياً في جوهره بحكم كونه موجوداً؛ كما اعتبر أن يقينية الموجود وحقيقته تجعلانه بالضرورة عقلياً، لأن العقل هو الوحيد الذي يتمتع باليقينية والحقيقة. لذلك فإن كل شيء واقعي، هو بالضرورة عقلي، وإلا فقد يقينيته وحقيقته، وبالمقابل فإن كل شيء عقلي هو بالضرورة واقعي، لأن العقل هو أساس الواقع. لذلك أرى أن قول هيغل هذا ينبع من قلب الحداثة الفلسفية لـديكارت؛ وجاء هذا القول تتويجاً لهذه الحداثة، واكتمالاً للبذرة الديكارتية العقلية. هذا هو تأويلي على الأقل لجانب من هذا القول الهيجيلي العميق.

سؤال: قال سارتر عبارةً مشهورةً بشأن الماركسية: إن “الماركسية هي الأفق الذي يتعذر تجاوزه في عصــرنا”. السؤال: برأيكم أين وصلت الماركسية من هذا القول، وما موقفكم اليوم منها؟

جواب: من المعلوم أن سارتر كان دائماً أسير صرعات عصره في فرنسا، وأسيراً أميناً لهذه الصرعات. وعندما أصبحت الماركسية صرعةً في فرنسا في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بدأ يترنم بها بطريقته المثالية المتميزة. فنشر عام 1960 كتابه “بحثاً عن منهج”، وطرح فيه فكرة أن الماركسية هي فلسفة العصر الحديث، وعنى بذلك أن لكل حقبة فلسفتها الرئيسة التي تعبر عن جوهرها وآمالها وطموحاتها وتناقضاتها؛ فكانت الديكارتية فلسفة عصر الميركانتيلية، وكانت الكانطية فلسفة عصر البرجوازية الصناعية، وحلّت محلها الماركسية بوصفها فلسفة عصر تخطي الرأسمالية. وعلى هذا الأساس اعتبر سارتر كل الفلسفات الحديثة، إما إعادة إنتاج للماركسية بصورة أخرى أو رجوعاً إلى الوراء إلى الفلسفات ما قبل الماركسية،أو فلسفات هامشية تعالج الإشكالات الجزئية للماركسية، كالوجودية مثلاً. ومع ذلك فقد نقد سارتر في الكتاب نفسه الشكل الستاليني للماركسية، وانتقد بشدة مادية الماركسية، ومعنى ذلك أن سارتر أعاد صوغ الماركسية بما يتناسب مع وعيه المثالي قبل أن ينصبها على عرش الفلسفة الحديثة. وبذلك كان وفياً لصرعة عصره. وأحسب أنه لو عاش حتى يومنا وشهد انحسار تأثير الماركسية التي لم تعد صرعةً في الأوساط الفكرية العالمية، لتراجع عن فكرته بأن الماركسية هي فلسفة العصر، ولتبنى موقفاً شبيهاً بموقف فلاسفة ما بعد الحداثة. وأعني بذلك أنني لا اعتدّ برأي سارتر في هذا المجال، ولا آخذه على محمل الجد. ولعل جاك دريدا كان أقرب إلى الجدية بكثير حين صرّح في كتابه “أطياف ماركس” أن ماركس هو فيلسوف القرن الواحد والعشرين بامتياز؛ لأن دريدا أعلن هذا الموقف الجريء ضد التيار الكاسح المعادي للماركسية، وفي مجابهة الهجوم الكاسح على الماركسية. وأرى أنه بغض النظر عن رأي سارتر، تبقى الماركسية متميزة في مجابهة تناقضات الرأسمالية والإشكالات الفعلية التي تعاني منها البشرية، وهي متميزة أيضاً في واقعيتها التاريخية العميقة. لذلك أعتقد أنها تظل أكثر الفلسفات ضرورةً في حل المشكلات الحياتية الفعلية. فجُلّ الفلسفات الأخرى هي فلسفات هروبية تساعد في تغييب الواقع، لا في حل إشكالاته. وبهذا المعنى المحدد، فإن الماركسية هي فلسفة الحقبة الحديثة، حيث إنها جاءت تتويجاً لمسيرة العقلانية الحديثة، وسلاحاً لا بديل عنه في حل إشكالات التاريخ الفعلية.

سؤال: تحضرني عبارة في هذا السياق للفيلسوف جيل دولوز، إذ يرى “أنه ليس ما ينقصنا حقاً نقد للماركسية، بل نظرية حديثة حول المال تكون في جودة نظرية ماركس وامتداداً لها”. السؤال: هل تتوقعون نظرية حديثة في جودة نظرية ماركس مستقبلاً؟

جواب: إن الماركسية في جوهرها نقدية مطلقة، وهذا يعني أنها تنقد نفسها بنقد غيرها، وتنقد غيرها بنقد نفسها؛ فنقدها الذاتي هو فعل جوهري فيها. وقد تراجعت الملكة النقدية في الماركسية حين تحولت إلى أيديولوجيا للسلطة السوفياتية، فمسخت النقد الماركسي، واتخذت طابعاً لاهوتياً وهو نقيض النقدية المطلقة التي تشكل جوهر فكر ماركس. والمطلوب هو رد الاعتبار تماماً لهذا الجوهر النقدي؛ فإذا تم ذلك عاد العلم الماركسي يشق طريقه الطبيعي صوب التطور والنمو. وهنا أشير إلى حقيقة أن ماركس في أعماله لم يصل إلى خاتمة، ولم يصل إلى نهاية، وإنما ظل يطور نظرياته حسب المعطيات الجديدة والبيانات الجديدة التي كان يحصل عليها، ولم يعتبر أياً من كتبه الكبرى بما في ذلك كتاب “الرأسمال” مشروعاً ناجزاً. وهذه الروح الماركسية هي التي نحتاج من أجل رد الاعتبار إليها. ولذلك أعتقد أن الجملة الأولى لـجيل دولوز تناقض الجملة الثانية؛ فرد الاعتبار إلى النقدية المطلقة في الماركسية هو شرط تطوير نظرية المال الماركسية لكي تستوعب المستجدات في الاقتصاد العالمي.سؤال: في إطار فلسفة البنية/ الذات: أعتقد أنك انتصرت لـ ألتوسير بتغليبه فاعلية البنية على حساب فاعلية الذات في كتاباتكم. لكن السؤال يأتي في جانب آخر هنا، وهو مسألة الفارق بين البنى الفوقية والبنى التحتية، هل ما زال قائماً، لا سيما ونحن اليوم أمام تحديات أبستمولوجية متجددة وأمام العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، بما لديها من مناهج متعددة؟.. فقال غصيب بعجالة تسبق الجواب، بأنه لا يحب استعمال مصطلح البنية التحتية والبنية الفوقية..

جواب: لستُ متحمساً لهذا التشبيه (البنية التحتية والبنية الفوقية) لأنه خلق في تاريخ الماركسية من الإشكالات العويصة والالتباسات أكثر بكثير مما حلّ من مشكلات فكرية. وتبين أن التمييز بين البنيتين نسبي ومتحرك، وأن العلاقة بين الممارسات الاجتماعية أعقد بكثير مما يوحي به هذا التشبيه، وقد أدرك ذلك عمالقة الفلاسفة الماركسيين في القرن العشرين، وأخص بالذكر لوكاتش، ومدرسة فرانكفورت، وغرامشي، وألتوسير. وقد نظر ألتوسير تحديداً، بصورة محكمة لهذا الأمر في كتبه الرئيسية، وأعتقد أن مسيرة هذا التقسيم تؤكد على أننا يجب أن نستعمل هذا التشبيه بمنتهى الحذر. وبصورة محددة حقاً، وإلا أوقعنا أنفسنا في اختزالية وابتذال فكري. وفي الحقبة الستالينية أسيء استعمال هذا التشبيه إلى حد الغثيان، وحوّلت حيوية الماركسية وتشعبها وغناها الفكري إلى معادلة مسطحة، تسطح الواقع وتحجبه

سؤال: في ضوء التطور الهائل لمنجزات الحداثة العلمية والتسريع الكبير لتقنية المعلومات والاتصالات الذي تحدثه مفرزات العولمة. في ضوء ذلك يتهاوى السقف الرومانسي للهوية القومية وللوطن – وتتوسع وحشية الرأسمالية وتتشابك المافيات العالمية طرداً مع إخطبوط العولمة المتزايد. السؤال: إلى أين تمضي هذه الهوية اليوم برأي هشام غصيب؟

جواب: أتحاشى استعمال لفظة العولمة بعيداً عن الرأسمالية والإمبريالية. لدينا نظام رأسمالي إمبريالي عالمي يتبلور بجلاء منذ بداية القرن العشرين، وامتد عالمياً وتخطى حدود الأمم. ونلاحظ أن تشابكه يتعمق ويزداد عمقاً واتساعاً. لكنه يظل نظاماً رأسمالياً إمبريالياً. هذا النظام فيه دول قومية مسيطرة، وفيه شعوب وأمم مُسيطَر عليها من أجل استغلالها ونهب ثرواتها. ونلاحظ أن هناك قانونين يحركان هذا النظام، فالذي يطغى في الأمم المسيطرة هو قانون التوحيد والوحدة وتعميقها، والذي يطغى لدى الأمم والشعوب المُسيطر عليها هو قانون التفكيك وتفكيك المُفكك. فلم تعد الأمم المسيطرة تكتفي بوحدتها القومية الناجزة، وإنما أخذت تفكر بخلق أطر وحدوية تتخطى الأمم من دون أن تزيلها كالاتحاد الأوروبي مثلاً. أما الأمم المُسيطَر عليها فهي تُفكَك باستمرار وتُفتَت، ويتم تحطيم الأطر الوحدوية القومية تحديداً التي أنجزتها جزئياً حقبة الحرب الباردة. ولذلك نرى الإمبريالية العالمية، تسعى إلى تصفية الشعور القومي لدى الأمم المستضعفة وإلى تحطيم المفهومات المرتبطة بهذا الشعور كالعروبة، والوحدة القومية، وتسعى في الآن ذاته إلى تكريس الهويات ما قبل الرأسمالية، كالعشيرة والطائفة والجماعة الإثنية والمناطقية. وبالطبع فإن هذه العملية التفكيكية تكرس أيضاً تخلف الأمم المستضعفة وتعزز الإمبريالية والنهب الإمبريالي، وتعمق استغلال الشعوب، وتضعف مقاومة الشعوب للاستغلال الإمبريالي الرأسمالي ومثلما تسعى الدول الإمبريالية إلى تفكيك الطبقة العاملة سياسياً في المراكز الإمبريالية، فإنها تسعى إلى تفتيت شعوب الأطراف سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لذلك بات من الضروري رد الاعتبار إلى فكرة الوحدة القومية والعروبة، في مجابهة آليات الهيمنة الإمبريالية والصهيونية، وفي مجابهة قوى التخلف الطائفية والقبلية. فنحن لا نكرس هنا الهوية بصورة معزولة عن التاريخ، وإنما نميّز بين الهويات التقدمية وفي مقدمتها الهوية العروبية والإنسانية، في مجابهة هويات رجعية متخلفة كالهوية الطائفية، والقبلية.

الحوار المتمدن:حاوره: أحمد إبراهيم العتوم



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.