مغربنا 1 جريدة إلكترونية مغربية


وجها لوجه…نيتشه وشوبنهاور

Maghribona1 Maroc

لا تستقيم دراسة فلسفة نيتشه دون إدراك تأثره بشوبنهاور وفلسفته التي يمكن اعتبار مقولاتها الأساسية في الإرادة، التشاؤم، الأخلاق، الدين من الركائز الهامة في البناء الفلسفي النيتشوي، سواء في تثبيت الأخير لجزء منها والتأكيد عليه أو بمعارضتها ونقدها. فكانت المحصلة فلسفته الخاصة التي ميزته عن، وقطع فيها مع شوبنهاور ((معلّمه)) في بداياته على الأقل. يقول عنه نيتشه في شعره:

ما علّمه تهدّم / ما عاشه لا يمكن إلغاؤه / خذوا عنه المثال / أبداً ما خضع لمعلّم! .

ولأن الخوض في عوالم الفيلسوفين الألمانيين الكبيرين ومن ثم المقارنة فيما بينهما عمل يحتاج إلى أبحاث موسّعة، سنكتفي بالإشارة إلى بعض الأمثلة التي توضح ما ذهبنا إليه من نقد نيتشه لشوبنهاور وفلسفته في مؤلفاته المختلفة.

بداية سنشير إلى المحطات الأساسية لفريدريك نيتشه (1844- 1900) مع آرثر شوبنهاور (1788-1860).

معرفة نيتشه الأولى به في العام 1865 من خلال دراسة كتابه ((العالم كإرادة وتصور)). كان لتعليقات نيتشه عليه دور هام في اكتشاف أستاذه ريتشل لنبوغه في الفلسفة. يتحدث عن تلك الفترة: (إن الإلحاد هو الذي قادني إلى شوبنهاور) (مع دراستي الأولى لشوبنهاور 1865 انتهيت إلى نفي “إرادة الحياة” لديّ بصورة جدّية). في العام 1868 كان الاهتمام بفلسفة شوبنهاور بشكل خاص السبب وراء اللقاء والصداقة العميقة مع الموسيقي ومؤلف الأوبرا ريتشارد فاغنر، ثم يختلف نيتشه معه لاحقاً ويخصّه بكتاب ينقده فيه. في العام 1874 يكتب نيتشه الجزء الثالث من كتابه ((تأملات غير راهنة)) عنوان هذا الجزء (( شوبنهاور كمربٍّ )) . وكان قد بدأ بالتحرر من تأثير آراءه وفلسفته.

في “الإرادة” المقولة التي تعد حجر الزاوية في فلسفة كليهما، الخلاف بارز في نقطتين أساسيتين: دور الذات أو الـ “أنا” فيها، ومدى إطلاقية “الإرادة”.

يقول شوبنهاور: (الإرادة هي شيء في ذاتها. فالمادة التي يتم فصلها عن الإدراك منذ ديمقريطس قديماً وإلى لوك وكانط حديثاً، بالنسبة لي هي الإرادة. الإرادة وحدة متناسقة دائمة فهي العنصر الثابت، و تعمل على توحيد مشاعر الإنسان وربط أفكاره وآرائه) (الإرادة هي جوهر الوجود وهي “الحقيقة النهائية” وكنه الأشياء الخفي فإذا أردنا معرفة حقيقة ما طبيعية أو ماورائية، يتوجب علينا معرفة هذه الإرادة). حتى يصل إلى أنّ (العالم هو معرفتي عنه).

بينما يقول نيتشه: (لا يزال هناك أكثر من تأملاني ساذج يعتقد أن ثمة ((يقينيات بلا توسط)) على حسب الخرافة التي آمن بها شوبنهاور: ((أنا أريد)). الـ “أنا” (ego) في حد ذاتها مجرد ((خدعة كبرى))، و((مثال)) . . إن ((اليقين بلا توسط)) شأنه شأن ((المعرفة المطلقة)) و((الشيء في ذاته)) ينطوي على تناقض وصفي). ويوضح نيتشه موقفه من الـ “أنا” شارحاً لنا أن: ( ليس هناك لا تصرفات أنانية ولا تصرفات غيرية: المفهومان كلاهما محض خلط سيكولوجي). يقول أيضاً: (يعلمنا شوبنهاور أن الإرادة وحدها معروفة لدينا أصلاً وأنها معروفة بالتمام والكمال . . . لكنه يُخيّل إلي أن شوبنهاور تبنى تحكيمة شعبية واشتط بها. الـ ((يريد)) تبدو لي شيئاً معقداً لا يشكل وحدة إلا من حيث هو لفظ وفي هذا اللفظ الواحد تكمن التحكيمة الشعبية بالذات. . في كل ((يريد)) أولاً كثرة من المشاعر: الشعور بالحال التي نبتعد عنها والشعور بالحال التي نصبو إليها ومن ثم الشعور العضلي المرافق الذي ما إن ((نريد)) حتى يتحرك ]فينا[ بفعل عادة معينة . . و ثانياً الفكر ملازم للإرادة . . توجد في كل إرادة فكرة آمرة لا يمكن عزلها عن الـ ((يريد)) . . وثالثاً ليست الإرادة مجمعاً من الشعور والفكر وحسب بل هي قبل كل شيء شعور أيضاً).

يتضح عمق التحليل الذي تناول فيه الإرادة وخلّصها من الميتافيزيقية التي غلّفها بها شوبنهاور، كما أنه سحبها من الذاتوية المحضة التي يؤكدها الأخير إلى موضوعيتها وتنوع مكوناتها وتفاعلها المستمر.

في التشاؤم، من المعروف أن شوبنهاور يصنف كمؤسس للتشاؤمية الحديثة، وقد تناولته دراسات عدة بالمقارنة مع مؤسس التشاؤمية الأول أبو العلاء المعرّي. يقول شوبنهاور: (الحياة لا تضم غير الشقاء والتعاسة التي يبتلي بها الإنسان ويتعذب فيها) وفي موضع آخر: (العالم شر وسوء؛ لأن الإرادة هي التي تدفعنا لهذا الشيء أو ذاك بما يجعل من المستحيل أن نحيا في سعادة كاملة. بل ولا يمكن أن نصل إلى تحقيقها. وإن الذين تقع لهم ما يسمونه بـ “السعادة” هي في حقيقة جوهرها سلبية، لأنه لا يمكن إدراك قيمتها إلا إذا فقدناها). مع هذا لا يعتدّ نيتشه بتشاؤمه ولا يعتبره “تشاؤماً ألمانياً” لكونه انتهى دون أن يقدر على تحويله إلى ما يسبب الفرح. يقول: (هناك أيضاً سؤال وهو معرفة ما إذا كان ضرورياً اعتبار شوبنهاور بتشاؤمه، أعني بمشكلة قيمة الحياة لديه ألمانياً؟… النحيب على رحيل ديونيزوس لا يجد معناه إلا في كونه ترحاباً بعودته حاملاً معه الربيع الحافل بالرؤى). يكون نقد نيتشه أكثر قسوةً وتهكماً بالقول: (من سعى مثلي طويلاً مدفوعاً برغبة ملغزة إلى أن يفكر التشاؤم حتى الثمالة، وأن يخلصه من الضيق نصف المسيحي ونصف الألماني الذي عرض نفسه به مؤخراً في هذا القرن وتحديداً في فلسفة شوبنهاور؟). ويستطرد في نقده موضحاً اختلاف تشاؤمه ومعناه: (من ينظر إلى التشاؤم من وراء الخير والشر وليس كمن يسيّره سحر الأخلاق وهذرها مثل بوذا وشوبنهاور… ربما يبصر المثال المعاكس، مثال الإنسان الأكثر جموحاً وحيوية وقبولاً للعالم). يمكن القول إن تشاؤمية نيتشه إيجابية. بمعنى أنها محرضة على الانطلاق في الحياة بهدف تغييرها. التغيير الذي يجد تعبيراته ضمن كتابه “أفول الأصنام / فلسفة المطرقة” الذي يعلن فيه نهاية الحقائق القديمة وشروعه بـ “مهمة” قلب القيم. ما يدل على المبادرة والإقبال على الفعل وليس الانكفاء والسلبية التي وصمت تشاؤمية شوبنهاور ونظرته للحياة عموماً في حين يوجهها نيتشه ضدّ الأوضاع والأفكار التي سادت عصره فرفضها ودعا إلى تغييرها، بل واعتبر ما يكتبه: “إلى أولئك الذين لم يولدوا بعد” حسب تقديمه الشهير لكتبه. في “الأخلاق” يقف الفيلسوفان على طرفي نقيض. وليس أوضح دلالة على هذا التناقض من تسمية نيتشه لشوبنهاور: (الأخلاقي الجدّي الوحيد في عصرنا) في حين يتحدث عن نفسه بالقول: (إنني اللاأخلاقي الأول).

في كتابه “مشكلتا الأخلاق الأساسيتان” يقول شوبنهاور: (إن المبدأ والقضية الأساسية التي يتفق بالفعل كل الأخلاقيين على مضمونها ((لا تؤذ أحداً، بل ساعد كل واحد بقدر ما في وسعك)) هي بالفعل القضية التي يسعى كل معلمي الأخلاق إلى تأسيسها)، الأمر الذي لم يستطعه شوبنهاور نفسه.

في مقابل ذلك نقرأ عند نيتشه: (إن الأنانية تنتمي إلى جوهر النفس النبيلة، وأقصد بذلك الاعتقاد الراسخ بأن كائناً ((مثلنا)) يجب أن تخضع له بطبيعة الحال كائنات أخرى، وتضحي بأنفسها لأجله). ويقرر أنّ هذا يقوم على قانون الأشياء الأصلي لذا يعتقد بوجوب قبول النفس النبيلة لأنانيتها (دون إحساس بالقسوة أو الإكراه والتعسف).

لن نحتاج كثيراً لنتبين تعارض القراءتين: يريد شوبنهاور الأخلاق غيرية تنحو دائماً لمساعدة الآخرين. ويصرّ نيتشه على أنانيتها وضرورة استغلال الآخرين بل ويعتبر هذا قانوناً طبيعياً.

في المحور الأكثر إشكالية لدى الفلاسفة: “الدين” يبني عليه نيتشه رأياً في شوبنهاور شخصياً. يقول: (لقد انتصبت في كواليس آخر فلسفة جاءتنا وهي فلسفة شوبنهاور علامة استفهام مرعبة.. تسأل عن أزمة الدين وإحيائه: كيف يمكن لسلب الإرادة أن يكون؟ كيف يمكن للقديس أن يكون؟ يبدو أن هذا السؤال هو الذي جعل من شوبنهاور فيلسوفاً وأوحى له بنقطة الانطلاق).

ورغم إلحادهما المعلن، نلاحظ الخلاف الكبير بينهما في مسألة “الدين” من خلال تناولهما للمسيحية: من أجل ما يسميه (تحقيق الوجود الروحي للسماء العليا) أكد شوبنهاور على ضرورة قهر الإرادة الداخلية المليئة (بالرغبات والشهوات وبكل ما يتعلق في تطلعات حياتية مادية). يساعدنا هذا لفهم إيمانه بالنيرفانا “التناسخ في الديانة البوذية” من حيث دحضها لرغبات الإنسان الدنيوية على طريق ذوبانه في “روح العالم” أو “الروح الكلي” . إضافة إلى إعادة قراءته للمسيحية واعتبارها مبنية على (التشاؤم الذي يعبر عنه مفهوم الخطيئة) وتقديره لمبدأ الصوم بما يحققه من (العفة ونكران الذات وضبط الغرائز).

ينسف نيتشه كل تلك الأفكار. يقول: (عندما يجعل المرء من فقر الدم مثالاً ومن تحقير الجسد ((خلاص الروح)) ما الذي يعني هذا إن لم يكن وصفة للانحطاط؟!). ويحسم الموقف من المسيحية في كتابه “عدو المسيح” حيث نقرأ :(يجب ألا تزين المسيحية أو تُجمّل. لقد قامت بحرب مستميتة ضد هذا النمط السامي من الإنسانية، مبطلة كل غرائزه الأساسية) (لقد انحازت المسيحية إلى كل ضعيف ومنحط وفاشل، وشكلت من مناهضتها لغرائز التشبث بالحياة المفعمة مثالاً، مُفسدةً ومسيئةً من خلال ذلك إلى صميم تلك الطبائع النفسية الأكثر قوة، عبر تعليمها لاعتبار القيم العليا المندفعة للنفس خطيئة وضلالات وغوايات).

يبدو أنّ ما أثار اهتمام وإعجاب شوبنهاور في المسيحية هو ذاته الذي استدعى سخط نيتشه واستفز هجومه ضدها. لا يخرج موقف كل منهما في هذا السياق عن الانسجام مع الذات إذا ما ربطناه بما أسلفنا في حديثنا عن “الأخلاق” .

نجد ختاماً أن التعارض والاختلاف الفلسفي بين الرجلين لم يمنع نيتشه من إنصاف شوبنهور:

(أثر شوبنهاور على ألمانيا الحديثة، ان غيظه الأحمق من هيغل أدى به إلى حل الترابط بين الجيل الألماني الأخير كله والحضارة الألمانية التي كانت ذروة للحاسّة التاريخية وصقل للتكهّن التاريخي).

Maghribona1 Maroc



شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.